لماذا تعثر التحول الديمقراطي بعد 4 سنوات من الثورات؟
بعد ما يقرب من أربع سنوات على اندلاع الربيع العربي، يرى مارك بي. لاغون، من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، والمتخصص في قضايا حقوق الإنسان؛ أن الدول العربية التي شهدت ثورات غيرت نظم حكمها الديكتاتورية لم تحقق طفرات على طريق التحول الديمقراطي المأمول. لكنه يضيف أن الجمهور التواق إلى إصلاحات حكومية لا يزال قويًّا في عموم المنطقة، ولذا يدعو لاغون -في الحوار الذي أجراه معه زكاري لاوب- الديمقراطيات الغربية الكبرى لأن تقدم مساندتها للدول العربية لتعزيز جهودها في إجراء تحولات على طريق الإصلاح الديمقراطي.
شهدنا في الأسابيع الأخيرة من عام 2014 تيارات متعارضة من دول هي في طليعة الانتفاضات العربية، حيث أجرت تونس انتخابات اعتبرها المراقبون حرة ونزيهة، وفي مصر فقد برّأ القضاء الرئيس السابق المخلوع حسني مبارك من التهم الجنائية الموجهة إليه. فما تقييمكم لحالة الانتفاضات العربية؟
هناك ميل للنظر إلى ما يسمى "الربيع العربي"، وما أعقبه كإخفاق ذريع، ومن المهم أن نتذكر طموحات الساعين إلى أن يكون لهم صوت مسموع.
تبعث التطورات التونسية على بعض الأمل. وهي حالة فردية، لكن بالانتخابات الحرة والنزيهة، ومع ما قد يسميه البعض جمهور ناخبين في طريقه إلى النضج، نجد أن هناك حزبًا حاكمًا سابقًا ملتزم بالقواعد، مع سماحه في الوقت ذاته بنقل السلطة.
وأما مصر فهي على الطرف الآخر من الطيف، حيث سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ؛ حيث ظل الحكام العسكريون المنتخبون من قبل الشعب ينتهكون الحقوق. كما أن العاملين لدى المنظمات غير الحكومية الذين اعتُقلوا، وصدرت ضدهم أحكام قضائية بتهمة التحريض على الفتنة، ومُددت الأحكام الصادرة ضدهم. وهناك حملة قمع شديدة موجهة ضد الاختلاف في الرأي وحرية الإعلام.
تشهد البلدان الأخرى التي تعرضت لانتفاضات، ومن أبرزها سوريا وليبيا واليمن، الآن حروبًا أهلية كشفت عن التصدعات الداخلية، كما تفاقمت هذه الحروب بفعل التنافس بين القوى الإقليمية. برأيكم.. ما آليات فض المنازعات المتاحة؟
المسألة ليست مسألة قدرة الأمم المتحدة، ولا قدرة القوى القيادية على القيام بعمل ما، بل هي مسألة إرادة هذه البلدان. من المريح بالنسبة لنا أن نشير بأصابع الاتهام إلى روسيا والصين -وهما قوتان تملكان حق النقض في مجلس الأمن- لكن الولايات المتحدة لم تُظهر القدر الكبير المطلوب من القيادة في سوريا والعراق.
فلو أن الولايات المتحدة لعبت دورًا ما لمساعدة العناصر الأقل عنفًا والأكثر ليبرالية بين المعارضة في سوريا؛ أظن أن انتشار الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ما كان ليحدث بالقدر الذي حدث به.
هل وعت واشنطن جيدًا الدروس المستفادة من التدخلات الحديثة مثل العراق أو ليبيا؟
نعم. نشر الديمقراطية يجب ألا يتم في المقام الأول تحت تهديد السلاح. والولايات المتحدة لا ينبغي عليها فحسب أن تكون حذرة من التدخل بأسلوب الاحتلال الكامل، بل ينبغي عليها أيضًا ألا تسعى فورًا إلى مساعدة الجماعات المعارضة العنيفة. وينبغي أن يكون البحث عن حركات مجتمع مدني غير عنيفة هو الضابط للسياسة الخارجية الأمريكية، وللسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ولعمل الأمم المتحدة.
عندما انتفض الناس في البحرين كي يعبروا عن نقدهم لحكومة ملَكية قمعية وأحيانًا فاسدة في مطلع عام 2011؛ كان من المجافي للحكمة أن يقف المرء متفرجًا على حكومة البحرين وهي تخمد هذه الانتفاضة بوحشية بمساعدة من المملكة العربية السعودية. فالرسالة التي وصلت إلى السعوديين وسلطان عمان والبلدان الخليجية الأوتوقراطية الأخرى كان مفادها أنها نجت من الربيع العربي، ولا يوجد لديها مبرر للإصلاح.
برأيكم.. هل تكشف البحرين، التي تستضيف الأسطول الخامس التابع للبحرية الأمريكية، حدود نفوذ واشنطن على حلفائها في قضايا حقوق الإنسان؟
نعم، وعلى وجه التحديد في سياق إشارة الولايات المتحدة إلى حاجتها لهؤلاء الحلفاء في الحرب العالمية على الإرهاب، نحن لا نضغط عليهم. لذا فإن بعض الأنظمة الحاكمة التي تتمتع بدرجةٍ ما من الشرعية الدولية، هي أنظمة قمعية نوعًا ما.
السياسة الأكثر براجماتية التي ينبغي أن تتبعها الولايات المتحدة هي أن تحض هذه الحكومات على الإصلاح. الحكومات غير المنصلحة هشة؛ فهي لن تستوعب رغبات المجتمع كما ستستوعبها حكومة أكثر تعددية. وهذا يصب في مصلحة الولايات المتحدة، وهو ليس مجرد مسألة قيمة عالمية في مجال حقوق الإنسان.
تغيرت الأمور بشكل شديد الوضوح في تركيا التي كان يُنظر إليها باعتبارها معقل الديمقراطية العلمانية. الإسلام السياسي ليس هو وحده الذي يمثل مشكلة؛ بل الذهنية ذات الطابع المؤسسي المتحيزة للذكور التي تنبع من صيغة واحدة من الفكر الإسلامي مقرونة بالارتياب في حرية التعبير والفساد.
لا يمكن أن نتوقع أن تكون الديمقراطية حول العالم نسخة بالكربون من الصيغة الأمريكية. وعلى الرغم من ذلك، فلا يجوز أن تكون لديك نظرة نسبية ثقافية بحيث تبرر الاستغناء عن عناصر أساسية في الديمقراطية. الديمقراطية ليست مجرد انتخابات، بل هي تسامح وتعددية، وإفساح مجال للأصوات السياسية للأقليات.
من الممكن لأحزاب الإسلام السياسي أن تعمل في سياق أكبر، وهذا هو ما يجعل من المهم أن تساعد الولايات المتحدة جماعات المجتمع المدني على مساعدة ذاتها. هذه الجماعات تحتاج لأن تكون منافسة للإسلاميين، وربما سيشجع هذا هؤلاء الإسلاميين على الإصلاح، وقد تمضي هذه البلدان في اتجاه المعاملة الأكثر إنسانية لمختلف وجهات النظر أو مختلف أنواع الجنس.
في وقت سابق من شهر ديسمبر الماضي، حُلّ البرلمان الإسرائيلي في أعقاب جدل عنيف حول مشروع قانون "يهودية الدولة" الذي كان من شأنه أن يميّز الهوية اليهودية للبلد على هويتها الديمقراطية. ما الذي تصبو إليه عندما يصوت الإسرائيليون في انتخابات مبكرة ستُجرَى في شهر مارس المقبل؟
من المهم بالنسبة لإسرائيل أن تنظر إلى موقفها في المرآة، وألا تكتفي بالاشتراطات، قائلة: "نحن دولة ديمقراطية، وبالتالي يمكننا أن نفعل أي شيء". تواجه إسرائيل تهديدًا من الإرهابيين، لكن التغييرات التي تضيّق على حرية الإعلام أو تقيّد التجمهر في الأماكن العامة أو الاحتجاجات الطلابية توهن دعائم الديمقراطية.
يبدو أن هناك مَعين دعم لحزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فيما يخص القومية. وسيكون مثيرًا للاهتمام أن نرى كيف تتضامن الائتلافات. الزعيم الذي ليس له منازع في رأيي هو وزيرة الخارجية السابقة وزعيمة حزب كاديما تسيبي ليفني. يتساءل الإسرائيليون الوطنيون عمّا إذا كان القتال لتحقيق أمن إسرائيل له حدود أم لا، وذلك فيما يخص قبول إمكانية الحل القائم على دولتَيْن.
قبيل الحرب على غزة في الصيف الماضي، شكّل الحزبان الفلسطينيان المتنافسان فتح وحماس حكومة تكنوقراط. وقد بدا أنها لا تعكس بدرجة كبيرة برنامجًا حزبيًّا مشتركًا، بل تعكس بالأحرى الإحباط الشعبي من الانقسام وعدم الشرعية. فإلى أين سيمضي هذا في عام 2015؟.
سيكون من الجيد أن نرى الأطراف الفاعلة الفلسطينية ملتزمة بنهج غير عنيف في عملها معًا. وتكمن المشكلة في أنه حتى فيما بين تلك الأطراف الفاعلة توجد مشكلات تتعلق بالفساد. مساءلة القادة في الدائرة الداخلية لمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية لها حدود، وهذا يُضعف مصداقيتهم.
لو أن من يقدمون المساعدة للسلطة الفلسطينية يظهرون بعضًا من قسوة المحبّ، ويستخدمون المساعدة لتأكيد نفوذهم لدى القيادة الفلسطينية؛ فسوف يصب هذا في مصلحة القيادة، ويعزز مصداقيتها وقدرتها على أن تكون أصواتًا مؤثرة تتمتع بالمصداقية في أية عملية للسلام. ذلك النوع من الضغط يمكن توظيفه، بل ينبغي توظيفه.
كثيرًا ما تبدو مكافحة الإرهاب هي المصلحة الغالبة في السياسة الأمريكية في المنطقة. لكن هل تستطيع واشنطن أن تتصدى بفعالية لقضايا الشرعية التي تمثل أساس كثير من هذه الصراعات؟
مشكلة السياسة الخارجية هي أن ما هو ملحّ يزيح في معظم الأحوال ما هو مهم. ويبدو أن الشيء الملح هو التعامل مع "الدولة الإسلامية" في كلٍّ من العراق وسوريا، وحشد الدعم من ائتلاف واسع يشمل عددًا من الحكومات الأوتوقراطية تمامًا. قد يكون هذا مُلحًّا، لكن ما هو مهم هو أن تضغط الولايات المتحدة على حلفائها في المنطقة من أجل تنفيذ إصلاحات. الإصلاح بين هذه الحكومات جيد للحيلولة دون انتشار الإرهاب على المدى الطويل، وهو جيد من أجل قيمتَيْ الحرية والتعددية العالميتَيْن.
ماذا عن القول بأن مصداقية الولايات المتحدة تراجعت فيما يخص نشر الديمقراطية؟
لقد ألحقت الولايات المتحدة بنفسها ضررًا كبيرًا، لكنها قادرة على إصلاح ما فسد. تقع على عاتق البلدان الديمقراطية مسؤولية أن تساعد من يحاولون إحلال الديمقراطية، وترسيخ حقوق الإنسان في بلدانهم. كما تقع على عاتقها أيضًا مسئولية ألا تأخذ منهم زمام المبادرة؛ فالمعركة معركتهم.
وماذا عندما تتحدى حركات المجتمع المدني تلك الحلفاء غير الليبراليين؟
تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تقف بجانب الأطراف الفاعلة من المجتمع المدني. يمكن أن تتحدث الولايات المتحدة إلى حكومة غير ليبرالية عن سياسة مكافحة الإرهاب، عن الحصول على الطاقة، عن دورها في مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن في الوقت نفسه يجب ألا تخفق الولايات المتحدة في أن تقدم على الأقل مساندة خطابية للأطراف الفاعلة من المجتمع المدني.
هناك أيضًا مقولة إن الولايات المتحدة تشوه -دون قصد- سمعة الحركات الوطنية التي تسعى إلى تعزيزها بتقديم المساندة لها. ما تعليقكم على ذلك؟
نحن نبالغ في تصور أن الولايات المتحدة تلطخ سمعة أي حركة. إذا كانت هناك جماعة تريد مساعدتنا، فالواجب أن نقدم لها المساعدة لو كانت ملتزمة بالتعددية والحوار وكانت جماعة غير عنيفة. وإذا كانت قلقة من تلطيخ سمعتها، فينبغي عندئذ أن نكون متفهمين.
هل تضطلع القوى الإقليمية أو الكبرى، أو المنظمات الدولية، بمهمة نشر الديمقراطية؟
أصدرت منظمة "فريدوم هاوس" لتوّها تقريرًا يظهر أن السويد قدمت مساندة قوية للديمقراطية حول العالم، كما قدمت بولندا مساندة قوية. وأما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وألمانيا فلم تقدم المساندة المثلى، لكنها اتسمت بالمبادرة والتشجيع. لكن الديمقراطيات الكبيرة الأخرى مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل واليابان وجنوب إفريقيا لم تقدم إلا مساعدة محدودة أو لا تكاد تذكر. ومن الضروري بالنسبة للقوى القيادية أن تلعب هذا الدور. إنها مأساة عندما لا تكون البلدان من أمثال البرازيل والهند وجنوب إفريقيا -وهي قصص نجاح في ميدان الديمقراطية- هي البلدان التي تقدم يد المساعدة.
ينبغي أيضًا أن نأمل أن تعمل تركيا وإندونيسيا بنشاط على اتخاذ خطوات لمساندة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
كيف تستشرفون عام 2015؟
ينبغي ألا نكثر من التشاؤم بشأن الربيع العربي والشرق الأوسط. فلو قرر الغرب أن الخيارَيْن الوحيدَيْن المتاحين هما الحكومات المستبدة أو التطرف الإسلامي، فستكون هذه نبوءة تتحقق بذاتها.
أنا على وشك تولي رئاسة فريدوم هاوس، ولدى المنظمة ميل إلى التركيز على قضايا حقوق الإنسان والحريات. وهناك بعض الأمثلة المشجعة. فإندونيسيا مثال على الكوب نصف الممتلئ، إذْ على الرغم من وجود بعض المشكلات التي تواجه الانتخابات هناك، فإنها دولة ذات أغلبية مسلمة تتسم بأنها ديمقراطية وحيوية بحق. كما أن تونس مثال آخر على الإصلاحات الدستورية التي يمكنها حماية أصوات المواطنين بطرق تتجاوز حدود الانتخابات.
ترجمة: طارق راشد عليان، باحث علوم سياسية.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجيه
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها