ملك الحركات!
قبل أشهر، شاهد المصريون تسجيلاً مفزعاً لوقائع اغتصاب بعض "الحَوَش" مواطنة ذهبت لتأييد السيسي في ميدان التحرير، لم يجرؤ أحد على إنكار التسجيل أو اتهام "الإخوان" بفبركته، التهبت المشاعر، وبدأ كثيرون في التذمر من عجز الأمن عن حماية المؤيدين للسيسي، حتى بعد مباركتهم البطش بمعارضيه. ذهب السيسي لزيارة الضحية، وقال لها كلاماً عاطفياً وعد فيه بالقضاء السريع على ظاهرة التحرش، فتحول مجرى حديث الرأي العام، من استنكار بشاعة الجريمة إلى تعظيم حنان القائد، ولم يعد ينقص سيل المديح المنهمر، إلا المطالبة بتحويل يوم زيارة السيسي للفتاة إلى عيد للمرأة المصرية. ولمدة أيام، تم تشديد الإجراءات الأمنية في الشوارع، طبقاً لتوجيهات السيد الرئيس، ثم عاد كل شيء بعد أيام، ولا أقول أسابيع، إلى ما كان عليه وألعن، من دون اتخاذ إجراءات قانونية، أو أمنية، لضمان حماية النساء من وساخات المتحرشين، حتى وصل الحال إلى صدور حكم بتخفيف العقوبة على رجلي شرطة، اغتصبا فتاة داخل بوكس شرطة، وسط صمت إعلامي مهين، مبعثه أن السيسي لم يزر الفتاة المغتصبة هذه المرة، بل كان يزور قضاة مصر الشامخين، لتهنئتهم بعيدهم الأشمخ.
قبل أسبوع، زار السيسي احتفال الكنيسة الأرثوذوكسية بعيد الميلاد المجيد، في "حركة" غير مسبوقة، أخرجت حتى رجال الدين عن الوقار الذي تفرضه قدسية المناسبة، ودفعتهم إلى تمجيد السيسي، احتفاءً بتلك "الطبطبة" الرئاسية غير المسبوقة، في حين زادت الزيارة من نزح "بكابورت" الطائفية لدى كثير من أنصار "الإخوان" الذين أفرطوا في تضخيم دلالات الزيارة التي ستسلخ هوية مصر الإسلامية، بل ووصل بعضهم للجزم بأن السيسي مسيحي متنكر، لأنه قام بعمل إشارة الصليب خلال كلمته، ولم يفكر أحد من شتّى المبالغين أن الزيارة لم تكن إلا "حركة" في سياق الصراع الدائر بين السيسي و"الإخوان"، لإقناع الغرب بأنه الأولى بتمثيل الإسلام المعتدل من جماعة الإخوان، التي راهن عليها الغرب عقب ثورة يناير، فضلاً عن كونها مكافأة لتصريحات البابا تواضروس التي برأت المجلس العسكري من مسؤولية مذبحة ماسبيرو وحملتها لـ "الإخوان"، ولعلها لم تكن مصادفة أن يتزامن ذلك مع عودة اللواء حمدي بدين، أحد المتهمين بالتورط في المذبحة، لشغل منصب رسمي، بعد إقصائه طويلاً عن الأضواء.
لم يسأل الذين تحدثوا عن تاريخية الزيارة وعمق دلالاتها عمّا إذا كانت قد واكبتها وعود قاطعة بتطبيق عشرات التوصيات، التي اقترحها خبراء منذ سنين، لحل مشكلات التمييز الطائفي وانتشار خطاب الكراهية، قبل أن يحدث انفجار جديد، يفاجىء بضراوته الجميع. ليس هذا مهماً، فالمهم أن "الحركة" كانت حلوة وملعوبة، و"عَلـَّمت" على أقفية الخصوم، والأهم أن يكون هناك دائماً حركة تقوم بها، تخص الكنيسة أو الأزهر أو محدودي الدخل أو أهالي شهداء الجيش والشرطة أو المعاقين ذهنيا أو الأحزاب أو الشباب، لأنك لا يمكن أن تستغني عن الحركات، حين تحكم شعباً تسوده ثقافة المسكنات التي تؤخر العلاج قدر الإمكان، إما هروبا من تكلفته الباهظة، أو اعتقاداً بأنه شعب يحظى بمعاملة إلهية خاصة، تتدخل دائما لنصرته وإنصافه. ولذلك، ستمنحك تلك الحركات فرصة أطول لديه، حتى تأتي المزيد من فلوس الخليج والفرنجة، فتحقق انتعاشاً اقتصادياً، يمكن أن تعزز تأثيره بمزيد من الحركات، وهكذا دواليك.
في البلاد التي تسود فيها ديمقراطية إجرائية، تضمن تداولاً نسبياً للسلطة، يعتمد الحكام أيضاً على "الحركات" لزيادة شعبيتهم أو استعادتها، لكن تأثيرها الفتاك يقل إلى حد ما، بفضل وجود إعلام يتمتع بقدر كبير من الحرية، وبجهود مؤسسات أهلية منظمة، لا تأكل من الأونطة بسهولة، وتسعى إلى الضغط لتحويل تلك الحركات إلى واقع ملموس. أما في بلادنا التي أضاع أهلها ثقتهم بأنفسهم، وجعلهم الخوف من وحش المجهول، الذي ضخّمه الإعلام، يُسلِمون أمورهم لمجموعة من عديمي الخيال والموهبة والرحمة، فحين تحذر شعبك من أن طبطبة الحاكم عليه ليست بريئة أبدا، سيكون عليك أن تتوقع واحدة من إجابتين: "موتوا بغيظكم"، أو "مش أحسن ما نبقى زي سورية والعراق"، أو الإجابتين معا، مع مزيج غير متجانس من سب المِلّة والسنسفيل.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها