قصة طاغيتين وحذاء!!
نيرون أحرق روما في عشرة أيام، وقف في برج شاهق وبعيد ، منشدًا اشعار هيومروس ، ومتمتعًا بصيحات الألم ، وبأنين قتلاه ، وهم هنا الآف من رعيته، ثلاثة ارباع المدينة، ممن حصدتهم لعنة سلطان معتوه ومريض نفسيًا.
فكيف لا يستلذ برؤية روما وأهلها وهما في لظى جحيمه وكيف لا يغني ويطرب وهو الحاكم الشرير الذي قتل أمُّه " أجروبينا " وزوجته " أوكتافيا " وابنه ، فلم ينج من جنونه قريبـًا أو صديقًا ،فمعلمه ومربيه الفيلسوف والحكيم " سينيكا " تلميذ افلاطون كان جزاؤه الموت منتحرًا .
اربعة اعوام فقط كانت كافية لأن يبطش ويحرق ويتسيَّد الرعب ارجاء المدينة، فملايين السيَّاح يزورون روما في الحاضر ، ومنهم من يقف مشدوهًا أمام هول الفظائع التي اقترفها الطاغية المريض، فمازالت ذكراه ماثلة بجثامين جماعية تتوسد المقابر والكهوف والانفاق .
كما وسيظل نيرون خالدًا بولعه وهوسه بحرق ضحاياه ، وبقذفهم للحيوانات المفترسة كي تمزِّقهم وتلتهمهم على وقع صفير وصيحات الجمهور في الساحة المعروفة ب" الاستاديم " . وبرغم ويلات هذا الحاكم المجنون مات منتحرًا، بعد ان فاض صبر أهل روما ونبلاؤها الذين قرروا عزله واعتباره عدوًا للشعب.
وقبل نيرون ابتلت روما بطاغية مأفون اسمه " كاليجولا " الأمير المختل الذي اغلق مخازن الحبوب ، ومنع الغذاء عن شعبه لمجرد رغبة جامحة في رؤية المجاعة تفتك بهم ؛ لقد شعر بالملل من رغد الرومانيين وازدهارهم ،فكان له ما اراد .
فكيف لا تصير البلدة الغنية فقيرة بين عشية وضحاها ،وكيف لا تزهق الآف المهج بسبب نزوة شاذة ، وبفعل سدنة من المنافقين والمطبلين والخانعين ؟؟؟ .
ومما يتذكره التاريخ ان هذا الأمير المختل ذهب يومـًا لمجلس الشيوخ متطيـًا جواده ، بل وأكثر من ذلك اصدر مرسومًا قضى بتعيينه عضوًا في مجلس الشيوخ .
ومع هذا الإذلال قوبل مرسومه بتصفيق وترحاب المنافقين والخائفين من نبلاء روما ، فشجعه لفعل ما هو أكثر احتقارًا ومهانة ، إذ دعا كامل اعضاء الشيوخ لحضور وليمة تنصيب حصانه .
جاؤا للمكان في الموعد المحدد، وكانت المأدبة عبارة عن تبن وشعير ، وفي اطباق ذهبية ، فأمرهم بالتهام العلف ، ففعلوا مثلما يفعل حصانه ، بل واضفوا على ضيافتهم شيئًا من البهجة والمرح المتزندق .
نبيل واحد ، وشيخ واحد اسمه " براكوس " رفض ذينك الإذلال ، وتلك المهانة ،فلم يحتمل كاليجولا ممانعة النبيل المحترم، فأعلن عزله وتنصيب جواده بدلا عنه، ووسط تهليل الحاضرين .
فخلع " براكوس " حذاؤه وقذف بها وجه حصان الأمير كاليجولا وصاح قائلا : يا اشراف روما افعلوا مثلي استردوا شرفكم المهان " .
كان حذاؤه رصاصة للخلاص من سلطان مختل ، وكانت كلماته المرتجلة كافية لاشعال جذوة الغضب في صدور من أذلَّهم وأمعن في احتقارهم ، فسقط ذاك الكابوس من على جواده ومن سلطانه وجبروته.
نعم في لحظات سقط " كاليجولا " ، فلم تتحد روما مثلما توحدت عقب سقوطه، فما من أحدٍ - بما فيهم حراسته - إلَّا وشارك في مأثرة الخلاص منه .
كما وأطلق العنان لعوام القوم في روما كيما يحتفون بنهاية الطاغية ، إذ خرجوا للتعبير عن فرحهم فمنهم من بصق في وجهه ،ومنهم من أقتلع تماثيله،ومنهم من أكتفى بالمشاهدة.
العبرة من قصة الطاغيتين هي انه في احايين قليلة صرخة واحدة تكفي لزلزلة الطغيان ايـًا كان قمعه وظلمه، وما فعله براكوس كان واحدًا من الافعال الخالدة في ضمير البشر .
فما من شعب إلُّا ولديه نماذجه من الحكام المصابين بعاهات نفسية ،وكانت الدول الحديثة وضعت حدا لجنون الحاكم بحيث بات السلطان مشروطًا بخدمة المجتمعات .
كما ومقيدًا بتقاليد وقوانين تحول دون سطوة الحاكم المهووس بجنون العظمة أو السادية او الاضطهاد او سواها من الامراض النفسية التي رآها العالم متجسدة في " ادولف هتلر " و " ستالين " و " بول بوت " و " موسوليني " و " بنيوشيه " و " عيدي أمين " و " بشار الاسد " و " القذافي " والقائمة طويلة.
وللأسف ان هذه العينة من البشر المفترض ان يكونوا بعيدًا عن السلطة أو في المستشفيات النفسية نراهم ماثلون كحٰكُّام وطليعة وزعامة ما يعرف الان بدول العالم المتخلف ثقافيًا ومجتمعيًا وسياسيًا.
محمد علي محسن
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها