احلام وانحيازات !!
أود ولو لمرة الكتابة عن اليمن "البلاد " المتناثرة الممزقة التي لم ترتق يوماً لمصاف الوطن الحاضن لكل ابنائه . الوطن المستوعب لأحلامهم وتطلعاتهم ، المستقر بتعايشهم وتسامحهم ، المزدهر بجهودهم وافعالهم وافكارهم .
الوطن الذي يمنحهم الشعور بالسلام والأمان والكبرياء ، ويعتزون ويفخرون به بكونه وطناً يستحقونه ويعيشون لأجل نهضته وتطوره .
وأكثر من ذلك ، اذ يجب ان يؤخذ اليمنيين فرصتهم التي يستحقونها كيما يصير لديهم وطنا فاعلاً ومؤثراً في الحضارة الانسانية ، واعتقد ان لديهم من المقومات البشرية والطبيعية الرافعة لكثير من الدول الصاعدة من قاع الفقر والتناحر والتخلف الى سفوح الحداثة والتنمية والرفاهية .
في كل مرة تراودني الكتابة عن " اليمن " أجدني مستحضراً الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل ، وتعبيره الوجيز العميق الذي كتبه عقب حرب صيف ٩٤م ضمن سلسلة تناولات عرفت لاحقاً ب " المقالات اليابانية " ووصف وقتها حاضر اليمن وأهلها ، بانه أسير ماض لا يريد ان يذهب ومستقبل لا يريد ان يأتي .
تأملوا جيداً كم نحن غارقون في خضم صراعات وحروب وتواريخ وقيادات ماضوية ؟ وكيف اننا نتوه ونهلك كلما خضنا غمار الدولة المستقبلية التي ينبغي ان تسود للأجيال القابلة ؟ .
وكيف تدمر مقدرات بلد وأهله ولمجرد محاولات سياسية هدفها التغيير الجذري او الجزئي ، المفضي لدولة وطنية يتعايش فيها الجميع بسلام وآمال وعدالة ومساواة ودونما أي فروقات او تمايز محتقر ومذموم .
اخطر القتلة ليس فقط ذاك الشخص المهووس بالقتل أو السلطة ، وانما في ذينك السياسي المستبد القاتل للحلم والأمل ، وفي ذاك المثقف المتعصب أو المراوغ ، وفي تلك القناة او الصحيفة المسوقة للأفكار الظلامية الشوفينية المنتهكة للقيم والمثل والمبادئ الوطنية والانسانية .
فشعب بلا احلام وبلا تطلعات ، هو شعب بلا حياة وبلا مستقبل وبلا غايات نبيلة تروم المستقبل ، ولا أظن انني أتحدث عن شعب يفتقر الى التفاؤل والأمل ،أو انه لا يتطلع ولا يحلم بحياة حرة ومستقرة .
في بلاد العم سام يمنح الانسان وتمنح المجتمعات فرصة كيما تثبت ذاتها ، واذا ما اخفقت وسقطت في الامتحان تستنهض ثانية ولا تترك الى ان تنجح، بينما في بلاد العرب اوطاني ، يترك الفاشل لمصيره المحتوم وتحارب الشعوب الثائرة الناشدة التغيير عنوة ، في قوتها وحياتها وتجاربها وافكارها يحارب الى ان تسقط او تتعثر وتفشل ، أو تموت وتنطفي جذوة كفاحها .
الدول الاوربية الغنية – مثلاً - تعاطت مع الدول الفقيرة ، كاليونان ومالطا ورومانيا وسلوفاكيا وبولندا وسواها من الدول الأوربية الملتحقة في البيت الاوربي الكبير ،بشيء من الذكاء والسخاء ،إذ دعمت تلك الدول اقتصاديا وسياسيا دونما توقف الى ان تخطت عتبة تخلفها او انها مازالت خاضعة للتأهيل التأهيل الى ان تنهض وتنطلق .
فرنسا دعمت ذات حقبة تاريخية نضال الامريكيين لتوحيد وطنهم وأمتهم ، فردت امريكا خلال الحرب الكونية الثانية بدعم عسكري اكبر واضخم وتكلل بتحرير بلاد نابليون من النازية الألمانية المحتلة لعاصمة النور " باريس " . حدث ذلك ولغاية نبيلة وسامية تتعدى الأفكار والأجندة الضيقة الأنانية .
ففي كافة الاحوال يمكن القول ان الجبال ليست بحاجة لجبال ، بينما البشر يحتاجون لمؤازرة ودعم بعضهم البعض ، فلا مناص هنا من التسليم بحقيقة ان المجتمعات الفقيرة المتخلفة لن تتخطى مشكلاتها وأزماتها الداخلية دونما دعم ومؤازرة الدول القوية القادرة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً .
فدعم دول التحالف ،يمثل دعماً أصيلاً أعده من صميم واجبات الجوار والعيش الانساني المشترك ؛ لكنني اتحدث هنا عن واقع مرير في مجمله ، وأخشى من مآلاته المروعة ، خاصة اذا ما بقي هذا الدعم العسكري والسياسي مقتصراً على اجندة لا ترتقي لمصاف الحالة اليمنية المطلوب لها استعادة الدولة ومؤسساتها ،ومن ثم تمكينها في بلورة مضامين الحداثة المنقلب عليها .
نعم ، يساورني القلق من اغنياء هم في حقيقة الامر ليس بمقدورهم دعم الفقراء وثوراتهم الشعبية المطالبة بالحرية والكرامة والوظيفة والخبز ، ان لم نقل استعادة جمهورياتهم المسروقة من انظمة عائلية مستبدة ، او أن هؤلاء الفقراء الثائرين بذلوا جهداً كي يستقيم حالهم ، وكيما تحقق ثوراتهم الدولة الديمقراطية العصرية .
فالمأساة الأعظم هي ان مجتمعاتنا وعلى تخلفها وعجزها الفاضح في الالتحاق بركب الدول الحديثة ، القلة الغنية منها تعاني من عسر الهضم ومن السمنة وامراضها – وايضاً- الاستبداد والاستعباد ، وبالمقابل مجتمعات كاثرة تعاني العوز والفاقة للمأوى والاكل والشراب كألاف الكلاب وفق تعبير الشاعر الراحل نزار قباني .
دول غنية توافرت لها ثروة النفط والغاز والمال ، وغابت فيها فكرة الدولة العادلة المستنهضة لطاقات مجتمعاتها التي مازالت عاطلة او خاملة أو مسلوبة لا فرق .
يقابل ذلك شعوباً فقيرة اُبتعلت دولها من حكام طغاة فاسدين مستبدين ، لكنهم لم يستطيعوا هضمها ، فكانت المحصلة ثورات وانتفاضات وخراب ودمار واقتتال مازال ماثلاً وفي أكثر من بؤرة ساخنة .واحدة من هذه البؤر المشتعلة حاصلة في هذه البلاد ، وطبعاً يصعب اخمادها دون مساعدة الصديق الخارجي المستنير المنحاز لقيم ومبادئ الدولة المدنية الحديثة .
واذا كانت اوروبا وامريكا افلحت في مساعدة دول عدة في القارة العجوز وفي اسيا وامريكا اللاتينية ، كيما تنهض وتستقر سياسياً ؛ فان الخشية من مساعدة الشقيق المتخلف الذي لا يمتلك رؤية حقيقية لما بعد الحسم للمعركة العسكرية او السياسية ، ففي هذه الحالة ستكون البلاد اشبه بأفغانستان بعيد انسحاب الروس او العراق بعد مغادرة القوات الامريكية . هذا في حال حسمت المعركة ، وأمل ان أكون خاطئاً في تقديري لمسار الاحداث .
١٧ سبتمبر ٢٠١٧م
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها