الأضحية.. بين حاجة الإنسان الروحيّة والماديّة!
لا تخرجُ شعائر الله جميعها من تلك المنظومة الممتزجة التي تأسس عليها الدين كله، أعني بهذه المنظومة (المزج بين الأرض والسماء) وهو بطريقة أخرى مزج يعني الدمج بين الروح والمادة فتمثل المادة في الذات البشرية واقعيّة الأرض وطبيعيتها وعلميتها بينما تمثِل الروح التعلق بالله تعالى سموّاً روحياً تستعلي فيه الذات البشرية على مصالحها الآفلة دنيوياً. تدور العبادات برمتها والشعائر الإسلامية كلها وتتمحور على خاصيّة واحدة هي الدمج بين (الدنيا والآخرة) يتمثل هذا الدمج في التركيب بين (الروح والمادة)، أي أن شعائر الله تراعي الفطرة البشريّة التي تُكِن في داخلها بعدين بعد روحي متعلق بالسماء وبعد مادي متعلق بالأرض.
ومن هنا فإن الدارس لفلسفة الأضحيّة يجد لها غرضين رئيسيين تماما كما لجميع العبادات والنسك الإسلامي هذين الغرضين وهما بعد السماء متمثلاً في (ألوهية الله)، وبعد الأرض متمثلاً في (طابع المجتمع)، فلو نظرنا للأضحية وكيف كان تسلسلها سنجد بعد الألوهيّة لله فيها مصبوغاً ببعدها الأرضي الاجتماعي، فكيف إذا؟
بُعد الأضحية الإلهي التحريري:
لقد جعل الله هذه الحياة الدنيا اختبارا وابتلاء ولم يخرج الأنبياء من هذه السنة فقد ابتلاهم الله واختبر إيمانهم؛ وظلت سنة الابتلاء ماضية الخطو في بني البشر: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الانبياء 35 ). بيد أن فلسفة الأضحية جاءت من هذا البعد التحريري للبشر مما تتعلق به النفس من المال والولد، وقد جعل الله كلا من إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام نموذج للتجرد لله يوضح اختبار الله للبشريّة، بينما جاءت رسالة الإسلام متممة لذلك الصرح الذي شاده الأنبياء فجمعت بين الروح والمادة في فلسفتها.
وهذه الآيات من سورة الصافات تتناول ذلك الجوهر الذي تتجلى فيه ألوهية الله مستعلية على كل شيء من قصة ذبح إبراهيم لولده اسماعيل في الرؤية التي رآها فاقدم على تنفيذ أمر الله مقاوماً نفسه صابراً على البلاء، حيث قال الله: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109)كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111 الصافات).
إن الله تعالى قد كرّم الإنسان على سائر مخلوقاته فما كان الذبح إلا اختبار وابتلاء، والله قد فدى إسماعيل بذبح عظيم لتكون تلك السنة ماضيّة وتؤدي هذه النسك لله وحده وعلى الناس أن يذبحوا ضحاياهم وهم مستحضرون لهذا البعد الإلهي الفريد بعد التحرر من كل شهوة تتعلق بها النفس والتطهر والتقوى لله، فليس لله غرض في نيل لحومها ولا دمائها لكنه يريد منا تقواه وذلك لا يضره إن لم يحدث بل ينفعنا نحن ، كما قال الله " لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (الحج 37). إن منسك المؤمن ينبغي أن يكون لله خالصاً كما تكون الحياة كلها موجهة إليه ماضية لرضوانه "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام 162).
بُعد الأضحية الأرضي الإجتماعي:
لقد تركب الإسلام لمتزج بالفطرة فهو يلبي حاجة الروح ويلبي حاجة المادة مع ضبط الروح بحيث لا تنعزل عن الأرض وضبط المادة بحيث لا تخلو من الروح، والأضحية بما لها من نسك لله وتجرد له فيها بعد آخر يتمثل في حاجة الفقراء والمساكين وإطعامهم منها، فلا خلاق مؤمن لم يستحضر روح الأخلاق في حياته وكما ذكر الله "لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" (الحج 28) وهنا تمتزج عبادة الروح مع حاجة المجتمع، فليس الإسلام دين مجرد عن مجتمع البشر ومشكلاتهم بل قرن الله بطاعته والتصدق على الفقراء اختبارا للنعم وابتلاء في الرخاء. إن فلسفة الأضحية هي في ذاتها امتزاج بين حاجة الإنسان الروحيّة وحاجته الماديّة ففيها إطعام وفيها تطهير للنفس من الشح، وفيها توجه روحيّ لله عبر استحضار القربان لله وعبر استحضار قصة إبراهيم وابتلائه العظيم بذح ابنه إسماعيل، وعليه فالأضحية تمثل نفس البعد الممتزج بين عالمي الأرض والسماء وحاجة المجتمع والفرد الملاحظ في جميع شرائع الله وآياته.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها