التحديق من خلال الشقوق في حرب اليمن.. مذكرات مراسلة من مدينة مارب الصاعدة
في المدينة التي تبدي نفسها كمعقل الاستقرار والأمان في قلب المعارك، ما تزال الأزمة الإنسانية واضحة المعالم في اليمن (تعتبرها الأمم المتحدة الكبرى على مستوى العالم). عليك فقط التحديق من خلال الشقوق لرؤيتها.
في وقت ما في الماضي البعيد، تروي الأساطير أن ملكة سبأ (بلقيس بالعربية) قادت مملكة ثرية كانت تقع وسط اليمن الحالية.
ما فعلته بلقيس، سواء وجدت أم لو توجد، يختلف بحسب النص الديني والسجلات الأثرية، لكن ماضيها حاضر في يمن اليوم.
ويستشهد السياسيون والأكاديميون وزعماء القبائل بحكمها كمثال على زمن ازدهار البلاد الغابر. لم يكن من قبيل المصادفة أن آثار عرشها المفترض كانت من أول الأماكن التي ااخذ إليها مجموعة من الصحفيين والباحثين الغربيين في مأرب (منهم أنا) في وقت سابق من هذا الشهر؛ إنها مدينة تزدهر بسبب حرب اليمن الطويلة وعلى الرغم منها.
المعبد بأعمدته الحجرية الشاهقة والنقوش المكتوبة بالنص القديم هو من الأماكن الذي يمكنك أن تضيع فيها بسهولة، لولا الجنود المحيطون بالموقع (لحمايتنا) وإشارتهم المستعجلة بان علينا المغادرة دائما.
أثناء خروجنا راحت تراودني الواقعة الصاعقة: يمن اليوم ليس فقط في حالة حرب، بل أيضاً في قلب كارثة إنسانية هي النقيض الجذري لمجد بلقيس الشهير.
التحالف السعودي والقوات الحليفة للرئيس المعترف به دولياً (والمخلوع) عبد ربه منصور هادي يخوضان حرباً ضد المتمردين الحوثيين والمقاتلين الموالين للرئيس السابق علي عبدالله صالح منذ أكثر من عامين ونصف.
الحرب في حالة توازن قوى في الوقت الحاضر، ولكن أكثر من 5,350 مدني (والمرجح أن العدد أكبر بكثير) لقوا مصرعهم (معظمهم نتيجة الغارات الجوية السعودية). كذلك يعيش الملايين في ظل نقص غذائي حاد، في حين أسفر انتشار وباء الكوليرا في البلاد عن مقتل آلاف آخرين.
دخول غير مألوف
نادراً ما تمكن صحفيون أجانب من دخول البلاد (مع استثناءات بارزة)، لذلك عندما تمكن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية من تأمين تأشيرات وتنظيم جولة – ولو إلى واحدة من أقل المناطق تضرراً في اليمن – قبلت الدعوة للرحلة فوراً.
عنى ذلك التوجه إلى مأرب، والتي تظهر كجزيرة هادئة في قلب العاصفة التي تعم البلاد. بفضل النفط، والمحافظ الكاريزماتي ذوي الصلات بالأسرة الحاكمة في المملكة العربية السعودية، بالإضافة لمقرات عسكرية معتبرة وسياسات قبلية وازنة، تنمو المحافظة في منطقة آمنة نسبياً، على الأقل بالنسبة لأولئك المتعاطفين مع أحد طرفي النزاع.
غير أن المدينة ليست آمنة بما يكفي للسماح للصحفيين بالتجول في الشوارع لوحدهم، على حد تقدير محافظ مأرب سلطان العرادة وفريقه الأمني المتفاني. عندما دعونا للتحرك دائما، استجبت (ربما ليس بالسرعة التي كانوا يرغبون بها). استمعت إلى حديث عن اتساع رقعة الحرب، وذهبت حيثما استطعت الذهاب.
لم أر الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية ويمثلون واجهة بلد قد يكون على حافة المجاعة ما لم تصل المساعدات في القريب العاجل. ربما لم يكن هناك أطفال كهؤلاء هناك. لكنني رأيت عينات على الأزمة.
وكما قال لي فارع المسلمي، رئيس مركز صنعاء وأحد مؤسسيه، بعد الرحلة: "من عادات اليمنيين إخفاء اتراحهم والمبالغة في إبراز اتراحهم … ألا تري [حجم الأزمة الانسانية] ، لا يعني ذلك أنها غير موجودة".
ماء ماء في كل مكان، ولا قطرة صالحة للشرب
يقال إن انهيار سد مأرب، حوالي 575م، والذي يشك في أن من تسبب به فأر، أدى إلى واحدة من أبكر أزمات اللاجئين في تاريخ العالم: نزوح عشرات الآلاف من الناس باتجاه شبه الجزيرة العربية.
يعمل السد الحالي على ما يرام – ممتلئ بما يكفي عدداً قليلاً من الناس للسباحة والعوم على إطارات مطاطية سوداء.
تستخدم مياه السد في الري، بحسب خبراء. في مدينة مأرب، على الأقل في فندقنا الخاضع لحراسة مشددة، يمر الماء عبر صنابير. هناك حتى معمل لتعبئة المياه في زجاجات.
ولكن التثمين الشديد للمياه هنا، واستعمالها للتباهي، ببساطة تسلط الضوء على مدى نقصه في بقية البلاد.
حتى قبل الحرب، لم يكن ممكناً الحصول على مياه شرب نقية بصورة منتظمة لحوالي نصف سكان اليمن البالغ عددهم 27.4 مليون نسمة. وقد دمرت سنوات الصراع أنابيب وأنظمة الصرف الصحي في بلد يعاني أصلاً من نقصها – يعتمد معظم اليمنيين اليوم على مياه شرب منقولة بالشاحنات، وهناك تحذيرات قديمة من احتمال نفاد المياه في العاصمة صنعاء بكل بساطة.
مؤخراً تسللت الكوليرا في اليمن من خلال الصنابير، ما أسفر عن مصرع 2,202 شخص وإصابة حوالي 920,000 آخرين منذ نيسان / أبريل الماضي. لكن ليس في والتي يتجاوز فيها عدد الحالا المشتبه بإصابتها 6,436، مع سبعة حالات وفاة فقط في كامل المحافظة.
ملاءات على نافذة المدرسة
المحافظ العرادة، الذي يرتدي خنجراً فلكلورياً على خصره مع ثوب أبيض وسترة، ومع نظارات بدون إطار ووشاح مربوط على رأسه، يقول إن القادمين الجدد مرحب بهم في مدينته ومحافظته، واللتين أصبحتا ملاذاً لمعارضي تحالف الحوثي-صالح، بالإضافة لمن لديهم صلات في الجيش.
قبل اندلاع الحرب كان عدد سكان محافظة مأرب 300 ألف نسمة ، حوالي 17 ألفاً منهم داخل المدينة. يصعب تقدير الرقم الحالي اليوم، لكن معظم من تحدثت معهم في الجامعة والمستشفى المحلي جاءوا من أماكن أخرى. بحسب العرادة فإن عدد سكان المدينة تضاعف.
دفعت الحرب أكثر من مليوني شخص من مختلف أنحاء اليمن للنزوح خارج منازلهم، وقد لجأ كثيرون إلى مخيمات ومساكن تكثر فيها الأوبئة وتقل المساعدات الغذائية والطبية. يقول المحافظ إن النازحين في مأرب، والذين تقدر الأمم المتحدة أعدادهم بـ73 ألفاً، أمر مختلف لأنهم لا يسكنون في مخيمات.
"عندما يأتي الناس من مناطق أخرى [من اليمن] لا أحد يعتبرهم غرباء ... فهم يختلطون مع أهالي المنطقة ... والأبواب مفتوحة لهم للعيش معنا جنباً إلى جنب" على حد قوله.
والحال أن كثيرين استأجروا منازل أو أقاموا مع أصدقاء أو أقارب لهم في مأرب، مع اختلاف ذلك عن أماكن إقامتهم التي ألفوها في ديارهم. خذ مثلاً أفنان ياسين البالغة من العمر 19 عاماً، والتي التقيت بها في أحد صفوف قسم الحاسوب في جامعة مأرب.
تقول أفنان إن عائلتها فرت من منزلها في محافظة إب "بسبب الحرب، بسبب [خطر] الخطف والتحرش من قبل الحوثيين".
إلا أن عائلتها – المؤلفة من خمس أخوات، وأخوين، بالإضافة إلى والديها، والتي تعيش في غرفتين فقط – تعتبر محظوظة لأنها تمكنت من استئجار شقة. خلال المرور عبر قافلة مساعدات على أوتوستراد المدينة المحاط بالجنود، توقفنا لمدة دقيقة – بسبب الازدحام – بجانب كلية مجتمع قيد الإنشاء
بناؤها لم يتم بعد، لكني كنت أستطيع رؤية القطن والشاش في نوافذ المباني الجديدة الشاهقة. "نعم، فيها نازحون"، يجيب دليلنا. إلا أنه لم يكن المبنى الوحيد في مأرب الذي يحكي قماش نوافذه حكايات عن ساكنيه.
وفي المحافظة ككل، تحصي الأمم المتحدة عدد "معسكرات اللجوء غير المسجلة" بـ112– غالباً ما تكون خيماً أو ملاجئ مناوبات – فضلاً عن 64 "مركز إيواء تشاركي" حيث يعيش النازحون في مبانٍ ومدارس وغير ذلك مما هو قيد الإنشاء.
أشار العرادة إلى أن وكالات الإغاثة تقوم أحياناً بإرسال مواد غذائية وملابس وأدوية. وبينما أخذ يتباهى بالنمو الذي تشهده المدينة (يقال أنها كانت تحتوي ثلاثة شوارع فقط قبل الحرب) اعترف هو نفسه بوجود تحديات: "كثير من الناس هنا بالكاد باقون على قيد الحياة وهم على حافة الهاوية".
ومن خلال نافذة السيارة الملطخة كنا نرى صفاً صغيراً من الأكواخ المبنية من الحجر والبطانيات والصناديق خشبية.
تلك مساكن لمجموعة من "المهمشين"، وهم سواد الطبقة الأفقر من الشعب اليمني الذين كانوا ينظفون الشوارع ولا يكادون يملكون شيئاً على الإطلاق.
دراسة الحرب والطبقة
في جامعة مأرب المحلية، حيث تسعى أفنان ياسين للحصول على شهادة جامعية، كانت غرف الدراسة ممتلئة – دروس الفيزياء وعلم الأحياء تحديداً كانت غالبيتها من الإناث.
يقول مسؤولون إن 5,000 طالب التحقوا هذه السنة، مقابل 1,200 السنة الماضية. هناك مبانٍ تابعة للجامعة قيد الإنشاء في أماكن أخرى، ناهيك عن الكلية الأهلية المذكورة آنفاً.
إلا أن الحرب تسربت إلى غرف الدراسة أيضاً. مدرس الإنجليزية والدراما محمد حمود صبري، انتقل إلى قاعة مؤقتة مصنوعة من الألومنيوم بسبب نقص المساحة الشاغرة، وهو لا يعلّم طلابه النصوص فحسب، بل أيضاً كيفية استيعاب حرب اودت بحياة آلاف المدنيين الأبرياء ومزّقت مجتمعهم.
روايته المفضلة هي مزرعة الحيوانات لجورج أورويل. وكما يقول "[طلابي] يدركون الأفكار العامة حول كيفية وقوع الثورات ونتائجها".
لعل الثورة اليمنية الأخيرة، التي بدت وكأنها إحدى قصص نجاح "الربيع العربي"، مختلفة جداً عما كانت عليه بعد مرور خمس سنوات. معظم الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين يوماً بالديمقراطية جنباً إلى جنب يقفون الآن أعداء على طرفي ساحة المعركة.
يجد رواية "أوقات عصيبة" لتشارلز ديكنز مناسبة هي الأخرى. "تدور هذه الرواية حول أثر المادية على عقولنا – وهم [الطلاب] يقومون بعقد مقارنات واقعية بينه [الكتاب] وما يقوم به أثرياء هذه المحافظة".
مستشفى حربي ممزق بالرصاص
ثم بعد ذلك لديك مستشفى مأرب العام، والذي ينتهي إليه الكثير من الشبان الذين لم يحالفهم حظ الدراسة، غالباً في حالة غير جيدة.
يقال أنه أفضل مستشفى على مقربة من اثنتين من خطوط الاشتباك. رائحة المعقمات تفوح منه. فيه غرفة إعادة التأهيل تضم بعض المعدات، كدراجة تمرين وورشة إنتاج أطراف اصطناعية في عين المكان.
يقول الأطباء إنهم جهزوا طرفاً اصطناعياً لنايف عبد الله (12 عاماً) والذي قال لي إنه داس لغماً أرضياً في منزله. كان الطرف الاصطناعي الجديد لساقه اليسرى مستديراً وصفيلاً ويعلو ما كان ليكون كاحله بقليل. قدمه اليمنى كانت بدون أصابع.
أبدى مدير المستشفى الدكتور محمد القباطي فخره بأن هذه المنشأة التي يخترقها الرصاص (حيث كانت منطقة اشتباك حتى وقت قريب نسبياً) تقدم العلاج مجاناً.
لكن نظام الرعاية الصحية في اليمن في حالة انهيار: في مناطق أخرى من البلاد، لم تصرف أجور موظفيه منذ عام، وتعرضت العديد من منشآته للضربات الجوية والقصف.
طبعاً عندما سئل القباطي عما إذا كان المستشفى بحاجة إلى أي شيء، رايح يتلفظ بلائحة طويلة: "أوكسجين، مضادات حيوية، سوائل وريدية، أدوات طبية".
وفي حال بدا الكلام عن علاج مجاني خبراً لا يكاد يصدق، فهذا صحيح، على الأقل بالنسبة لبعض المدنيين.
خارج المبنى، لم يتمكن عبد الرحمن السباري (22 عاماً) الراغب في الانضمام إلى القتال من الحصول على بدلة عسكرية. كان يجلس على كرسي متحرك خارج المستشفى مع ندبة خشنة على قدمه. قال إنه جاء من صنعاء للقتال، لكنه تعرض لحادث دراجة نارية قبل انضمامه، وأصبح بحاجة إلى عملية جراحية سيضطر لدفع تكاليفها.
بالعودة إلى الداخل، الرجال الذين قطعوا مسافة ساعات من المعارك موزعون ستة في كل غرفة. جميعهم تقريباً جنود: رجال بدون أطراف، ذباب يحوم فوق ضماداتهم، وفي احد الغرف يتلقى مقاتل حوثي العلاج تحت حراسة مشددة.
ما يمكن وما لا يمكن أن تراه
خلال ليلتنا الأولى في مأرب، أفادت الأنباء أن غارة لطائرة بدون طيار أدت لمقتل شخصين في أطراف المحافظة – قالت الولايات المتحدة في وقت لاحق إنها نفذت ثلاث غارات لطائرات بدون طيار استهدف تنظيم القاعدة في ذلك اليوم وغارتين في اليوم التالي، وقد كان العدد أكبر من ذلك في المحافظة المجاورة.
ثمة شيء آخر لم أره – وبالكاد كنت متصلاً بالإنترنت لأقرأ عنه – هو الصاروخ الحوثي التي اعترضته السعودية بالقرب من العاصمة الرياض. كذلك، بالتأكيد، لم أشهد أية ضربات جوية تلت ذلك وتواصلت في صنعاء.
شعرت، بشكل غير مباشر، بآثار إعلان التحالف السعودي عن إغلاق المطارات والحدود والموانئ البحرية رداً على الصاروخ الذي استهدف الرياض، ولكن بالنسبة لي عنى ذلك مجرد تغيير طريق الخروج. يشهد المدنيون اليمنيون الآن الآثار الحقيقية لإغلاق الميناء الرئيسي للبضائع والمعونات، وما تبعه من ارتفاع أسعار الوقود، وتحذيرات وكالات الإغاثة من احتمال حدوث أسوأ مجاعة مر بها اليمن منذ عقود.
حتى قبل الإغلاق الأخير، كان من الصعب الحصول على المساعدات في معظم أنحاء اليمن. شعرت بأن وليمة لحم الجمل الذي قدمت لنا، والتي ترافقت مع الموسيقى والرقص، غير عادلة بالمرة بالمقارنة مع عدد اليمنيين الجوعى المهول. لكن بالنسبة لليمنيين – حتى أولئك الذين يعيشون في أسوأ الظروف – أي شيء غير السخاء وحسن الضيافة يعتبر عيباً.
قام فنان يعزف على القنبوس بالغناء لأجانب لديهم وطن يعودون إليه: "اللي مضيع ذهب سوق الذهب يلقاه، بس اللي مضيّع وطن وين الوطن يلقاه؟"
من مظاهر الحرب التي رأيتها بالفعل نصب تذكاري أحدث، وأكثر تواضعاً، للمعبد الشاهق لملكة سبأ.
على حافة المدينة، وفي حقل آخذ بالتصحر، تقع مقبرة حربية للضحايا المدنيين والعسكريين. شواهد القبور منخفضة ومتقاربة، وثمة المئات منها.
توجد نباتات على بعض القبور، وعلى البعض الآخر صور للموتى، وجميعهم – باستثناء تلك المحفورة حديثاً – عليها أسماء أصحابها.
"هناك شقوق، في كل شيء. هكذا يعبر الضوء." ليونارد كوهين، النشيد.
اان سيموند
وكالة الانباء الانسانية - محررة قسم الشرق الاوسط
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها