كيف أسس "صالح" للحرب باليمن؟
عدن بوست -تحليل - محمد السعيد : الثلاثاء 17 أكتوبر 2017 12:54 صباحاً
كانت خطته بسيطة وذكية بشكل لا يصدق: معلومة صغيرة مضللة يتم تمريرها، ثم ضربة جوية خاطفة وينتهي كل شيء، ويتخلص الرئيس "غريب الأطوار" من قائد جيشه النافذ ومنافسه الرئيس على السلطة. لم تقصّ علينا وثيقة(1) ويكيليكس، الموثقة لحوار بين نائب وزير الدفاع السعودي آنذاك "خالد بن سلطان" وبين السفير الأميركي في الرياض "جيمس بي سميث"، تحديدًا سبب اشتباه الطيران السعودي في إحداثيات قدمتها له المخابرات اليمنية على أنها أحد الأهداف العسكرية لجماعة الحوثي، ليقرر الطيران السعودي بعد الاشتباه إيقاف الضربة والعودة من جديد للتحقق. وسرعان ما ثبت أن شكوك السعوديين كانت في محلها، حيث لم تكن الإحداثيات التي تم تزويدهم بها تخص أيًا من مقرات الحوثي على الإطلاق، وإنما كانت تخص مقر قيادة اللواء "علي محسن الأحمر" قائد الفرقة الأولى المدرعة الذي كان للمفارقة يخوض حربًا سادسة ضد جماعة الحوثي في "صعدة" بالشمال نيابة عن الحكومة اليمنية والرئيس "المخادع" نفسه.
تحب الصحافة العربية إطلاق لقب "الراقص على رؤوس الثعابين" إشارة للرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح منذ كان في السلطة(2)، بينما وصفه المسؤولون الأميركيون يومًا أنه شخص "غريب ونكدي"(3)، في حين اختارت مجلة ذا أتلانتيك مؤخرًا وصفاً أكثر حداثة وسينمائية حين أطلقت عليه لقب "فرانك أندروود" الشرق الأوسط(4)، نسبة لبطل المسلسل السياسي الأميركي الشهير "هاوس أوف كاردز"، في إشارة لطرقه "الخبيثة والملتوية" لتعزيز سلطته عبر التلاعب بخصومه وحلفائه على حدٍّ سواء.
لا أحد يعرف اليوم حقيقة إذا ما كان صالح قد زجّ بجيشه، من البداية، في حروب السنوات الست ضد الحوثيين من أجل استنفاد طاقة وحدات الجيش الموالي لمحسن الأحمر قبل التخلص منه، واستثمار نفس الوقت في تعزيز قوة الحرس الجمهوري الخاضع لرئاسة نجله أحمد، الوريث المنتظر للسلطة، أم أنه استغل الحرب المندلعة سلفًا لتحقيق هذا الهدف، إلا أن الجميع يعرفون اليوم أن الحرب قد فعلت ذلك. كانت التكتيكات التي استخدمها الرئيس اليمني في تلك المعارك ضد الحوثيين مريبة(5) بشكل كبير، وصولًا لقيامه في مراحل متقدمة من القتال بتزويد الحوثيين أنفسهم بالسلاح لإطالة أمد حرب تخدم مصالحه، كما قام أكثر من مرة بتوجيه أوامره لجيشه بوقف إطلاق النار والتراجع حين يكون قريبًا من تطويق الحوثيين. ومن أجل متابعة سياسته في المضي قدمًا مستترًا بدخان الحرائق، فقد نجح في الزج بالسعوديين، خصومه الخارجيين القدامى، في الحرب بشكل كامل من أجل التخلص من خصومه المحليين.
ليس لعلي صالح حلفاء دائمين ولا أعداء دائمين أيضًا، وأثبت أنه قادر على تغيير جلده ببراعة، فنجح في الحصول على دعم السعوديين من أجل مواجهة خصومه الاشتراكيين في الثمانينيات، قبل أن ينقلب على الرياض منحازًا للرئيس العراقي صدام حسين إبان غزو العراق للكويت، قبل أن يعود للتحالف معها في حروبه ضد الحوثيين. وقام بالتحالف مع التجمع اليمني للإصلاح، فرع جماعة الإخوان المسلمين المؤثر في اليمن، قبل أن ينقلب عليهم في نهاية المطاف، واحتضن الحوثيين وسمح لهم بالعمل السياسي ثم شن حربًا ضدهم لم يثنه عنها التوافق المذهبي، حيث يتشارك مع الحوثيين اعتناق المذهب الزيدي، قبل أن يعود ويقدم بعض الدعم لهم إبانها ضد جيشه ذاته. كما تحالف مع أبناء عمومته من قبائل حاشد لتعزيز سلطته، ثم عاد وحاول التخلص منهم عبر التهميش أو حتى عبر الاغتيال.
لم يكن مستغربًا إذن أن يعود صالح للتحالف مع الحوثيين عقب الإطاحة به من السلطة طالما وجد أن ذلك التحالف يمكن أن يخدم مصالحه، وليس من المستغرب أيضًا الحديث اليوم عن تفكيك هذا التحالف إذا رأى أن تفكيكه يمكن أن يخدم مصالحه. ويبدو أن سيولة حالة التحالف والعداء سواءً في الحرب أو السلم، والمصنوعة على عين ثقافة صالح السياسية، قد صبغت السياسة اليمنية بأكملها، وكيف لا وقد ظل الشخصية السياسية الأكثر تأثيرًا في اليمن منذ تسميته أول رئيس لها كدولة موحدة عام 1990، وحتى اليوم بعد خلعه من السلطة.
الرقص على رؤوس الحوثيين
لطالما شكَّلت مدينة صعدة شمال اليمن استثناءً خاصًا، ليس لطبيعتها الجبلية فحسب، ولكن لخصوصيتها المذهبية أيضًا. كانت صعدة معقلًا لمؤسس أول دولة زيدية في اليمن: الإمام يحيى بن الحسين الملقب بـ"الهادي"، أواخر القرن الثالث الهجري. ورغم أن دولة الهادي لم تدم طويلًا، إلا أنها شكلت القاعدة الرئيسية للمذهب الزيدي والإمامة الزيدية الحاكمة لأجزاء كبيرة من اليمن لقرون طويلة، قبل أن تسقط المملكة المتوكلة الزيدية، آخر حكومات الزيديين، في مواجهة ثورة الجمهوريين مطلع الستينيات من القرن الماضي.
في الأدبيات الإسلامية، يُعرف الزيديون على أنهم "سنة الشيعة" أو "شيعة السنة"، في إشارة لوسطية مذهبهم المعتمد على مزيج من الفقه الحنفي وفكر الاعتزال، وبسبب موقفهم المعتدل من إمامة الصحابة مقارنة بسائر طوائف الشيعة، ويعد مبدأ الخروج على "الحاكم الظالم" أحد أبرز مبادئ المذهب الزيدي، لذا فقد تأخروا كثيرًا في الاعتراف بواقع "اليمن الجمهورية" الجديد، وكان عليهم أن ينتظروا حتى توحيد اليمن عام 1990 من أجل العودة للمشاركة المؤسسية في السياسة(6)، بعد فترة جمود طويلة منذ سقوط الإمامة المتوكلية، حيث تأسس أول حزب سياسي بمرجعية زيدية تحت اسم "حزب الحق"، وكان من اللافت أن علماء الزيدية أصدروا وثيقة قبلوا خلالها لأول مرة بـ "شرعية النظام الحاكم"، وقبلوا بالديمقراطية التشاركية كصيغة لنظام الحكم.
في ذات التوقيت، بدأ الشباب الزيدي بالانخراط من جديد في النشاط العام من خلال "منتدى الشباب المؤمن"، النواة الأولى لحركة "أنصار الله". كان معظم هؤلاء الشباب من أنصار رجل الدين الزيدي "بدر الدين الحوثي"(7)، أحد أبرز المعارضين لوثيقة الاعتراف بالشرعية، ولكن أتباعه نجحوا في الاستفادة من مناخ الانفتاح مع الحكومة، حيث سهَّل لهم صالح بشكل كبير النشاط السياسي والاجتماعي، ووفر لهم دعمًا ماليًا في مواجهة السلفيين اليمنيين الغاضبين من دعمه للعراق، وكذا في مواجهة التجمع اليمني للإصلاح، أبرز القوى السياسية في اليمن بعد الحرب الأهلية، مع ظهور بوادر توتر بينه وبين التجمع في الأفق. وبالطبع كان السلفيون والإصلاح قبلها حلفاء طويلي الأمد لصالح، منذ وصوله للحكم في اليمن الشمالي أواخر السبعينيات، حيث وظفهم، بطريقته الأثيرة في موازنة الخصوم، في مواجهة نفوذ الاشتراكيين الممتد من اليمن الجنوبي، إلى أن حان وقت البحث عن حلفاء جدد كالحوثيين.
لم يكن صالح غافلًا عن نشاطات الحركة الزيدية الناشئة وتدريباتها شبه العسكرية تحت سمعه وبصره، ولكنه رغب فيما يبدو أيضًا بإيجاد مكون ديني مسلح موازن لنفوذ الإصلاح. حتى ذلك التوقيت، على الأرجح، لم يكن نجم حسين الحوثي، نجل بدر الدين، قد بزغ بعد، إلا أنه ظهر بقوة في المشهد اليمني في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، حاملًا أفكارًا معادية للولايات المتحدة والصهيونية. ولم يكن الحوثي وقتها -الحاصل على شهادة دكتوراه من السودان عام 1993- رجل دين أو فقيها، ولكن شخصية كاريزمية ذات طموح سياسي مع تأثر واضح بتجربة وشعارات "الثورة الإسلامية" في إيران. وسرعان ما بدأ صالح يشعر بانزعاج شديد حين شاهد شعارات "الموت لأميركا والموت لإسرائيل" ضمن أنشطة نظمها "الشباب المؤمن" في بعض المساجد اليمنية(8)، وتحركت الحكومة سريعًا وقامت باعتقال ما يقرب من 800 شخص من مؤيدي الحوثي في صنعاء، حيث خشي صالح من تحول هتاف "الموت لأميركا" إلى "الموت لعلي صالح" في وقت ما.
إبّان الحملة الأمنية، دعا صالح الحوثي لاجتماع في صنعاء، ولكن الحوثي تباطأ في تلبية دعوة الرئيس اليمني وهو ما أثار شكوكه إزاء نواياه، وفي (يونيو/حزيران) 2004 توجهت 18 مدرعة عسكرية لاعتقال حسين الحوثي، مما أدى لاشتباكات مسلحة بين أنصاره والقوات الحكومية، قامت على أثرها الحكومة بتوجيه عدة اتهامات لحسين في مقدمتها قيادة تمرد مسلح ضد الدولة، واستخدام المساجد للتحريض على الإرهاب، وبث خطابات معادية للولايات المتحدة، وفي 18 (يونيو/حزيران) من نفس العام اندلعت المواجهة العسكرية الأولى بين الفريقين، وانتهت بمقتل حسين في (سبتمبر/أيلول)، قبل أن تتجدد المواجهة الثانية في (مارس/آذار) عام 2005، واستهدفت التخلص من المقربين من الحوثي مثل يوسف المداني وعبد الله الرزامي، ورفض الحوثيون إبانها عرضًا بعفو رئاسي مقابل تسليم أنفسهم ووقف إطلاق النار.
في (سبتمبر/أيلول) من نفس العام 2005 اتخذت المعارك بُعدًا قبليًا لأول مرة(9)، بعد أن أقدم نظام صالح على قصف بعض المنازل بحجة إيوائها لمقاتلين حوثيين، قبل أن تتوقف الحرب استعدادًا للانتخابات الرئاسية. في ذلك التوقيت كانت قيادة الحركة قد آلت لعبد الملك الحوثي، الأخ الأصغر غير الشقيق لحسين الحوثي، متجاوزًا إخوته الأكبر عمرًا. ولمفارقة لا تخلو من دلالة حول طبيعة العلاقة بين الطرفين، قام صالح في ذلك التوقيت بإطلاق سراح 600 معتقل من الحركة، فيما قام الحوثيون بدعم صالح في الانتخابات في (سبتمبر/أيلول)، وكانت صعدة إحدى أفضل المحافظات ذات النتائج الانتخابية الجيدة(10)، رغم كونها تعيش لأكثر من عامين ونصف في أتون حروب متقطعة.
لم تدم الأمور على حالها طويلًا قبل أن يندلع الاشتباك الرابع بين الطرفين في (يناير/كانون الثاني) عام 2007، واستخدم خلاله الجيش المدفعية الثقيلة لتدمير صعدة، وتوسع في الاعتقالات العشوائية للضغط على الأسر والأهالي لدفع ذويهم لتسليم أنفسهم، حرب تم إنهاؤها بوساطة قطرية، اتُفق بموجبها على انتقال عبد الملك الحوثي للإقامة في الدوحة كمنفى، ولكن الاشتباكات اندلعت بين الفريقين من جديد قبيل تنفيذ الاتفاق بعد كمين نصبه الحوثيون وأدى لمقتل سبعة جنود من الجيش اليمني، مما تسبب في نشوب حرب خامسة في (مارس/آذار) 2008.
مثلت الحرب السادسة والأخيرة، المندلعة في (أغسطس/آب) عام 2009، منعطفًا جديدًا في الصراع اليمني أخرجه من نطاق المحلية للإقليمية، بعد أن زعمت حكومة صالح اكتشافها لسفن أسلحة إيرانية كانت في طريقها للحوثيين. وسواء كانت مزاعم الحكومة صادقة أم لا، فإن صالح عرف كعادته من أين تؤكل الكتف، فكانت مزاعم التدخل الإيراني كفيلة بإثارة ذعر السعوديين، ليهبوا للدفاع عن حدودهم الجنوبية مشاركين في القصف ضد الحوثيين، بعد أن ادّعوا أن الجماعة اليمنية المسلحة قامت باختراق الحدود الجنوبية لهم.
التحالف الهش
من خلال دفع السعوديين للدخول في الحرب، نجح صالح في ضرب عدة عصافير بحجر واحد. فمن ناحية استعاد علاقته مع الرياض، ونجح في ابتزازها للحصول على قدر كبير من المساعدات المالية، ومن ناحية أخرى عمد لاستغلال الحرب للتخلص من جميع القادة والمكونات المناهضة لمشروعه لتوريث الحكم، وعلى رأسهم علي محسن الأحمر والتجمع اليمني للإصلاح. وبينما قاد صالح ظاهريًا الحملة العسكرية ضد الحوثيين، فإنه قد استنفد فعليًا جهود وحدات اللواء الأحمر، العالِم يقينًا أنه ثاني أقوى رجل في اليمن، بحكم نفوذه الواسع في الجيش، وسطوته القبلية الكبيرة لانتمائه لقبيلة "حاشد"، أكبر قبائل الشمال اليمني وقبيلة صالح أيضًا، وكذا قاعدته الأيدولوجية بحكم قربه من التجمع اليمني للإصلاح. وبحكم هذه العوامل، عُرف الأحمر بأنه المنافس الرئيسي لصالح، والعقبة الأخطر أمام خطة الأخير لتسليم الرئاسة لابنه الأكبر أحمد.
استنفدت الحملات العسكرية الطويلة الأمد قوات الأحمر، وأدت لانقسام بين القبائل الشمالية المتورطة في دماء ثأرية بين بعضها البعض، في حين حافظت خطط المعركة على كتائب الحرس الجمهوري المدربة والمجهزة بشكل جيد، تحت قيادة العميد أحمد علي صالح دون إنهاك، وبلغ الأمر أن صالح قام بتمرير بعض الأسلحة للحوثيين لإطالة أمد الحرب كما أشرنا سلفًا، وكان تزويد كلا الجانبين بالأسلحة لتحييد أو استنفاد منافسيه أحد تكتيكات صالح المفضلة.
لم تأت الرياح بما تشتهي به سفن صالح، مضطرًا للتنازل عن السلطة عقب ثورة اليمن إبان الربيع العربي، ومن وجهة نظره فإن الثورة كانت لحظة سحرية غير منتظرة اجتمعت فيها كل القوى المنافسة لتنقض عليه في لحظة واحدة. فمن ناحية وجد الحوثيون والإصلاح أنفسهم متجاورين في ميادين التظاهر، كما انحاز آل الأحمر والموالون لهم بالجيش للثورة، وحتى الرياض المسارعة للتدخل لاحتواء الاحتجاجات قبل تفاقمها، فإن كبش الفداء المقدم من طرفها هو صالح نفسه.
ولكن الرئيس اليمني الواسع النفوذ نجح في الخروج من السلطة عام 2012 محملًا بمميزات ونفوذ لم يحظ بها أي من القادة المطاح بهم في الربيع العربي، إذ سُنَّ قانون خاص مُنح صالح بموجبه الحصانة من الملاحقة القضائية(11)، ومعه مسؤولي نظامه، وذلك رغم ارتكابه "مجازر" بحق المتظاهرين السلميين، كما سُمح له بالبقاء داخل اليمن، وهو ما مكنه من الحفاظ على شبكة واسعة من حلفاء قبليين وعسكريين وبيروقراطيين صنعهم على عينه طوال عقود حكمه الثلاثة، وهذه الشبكة مكنت حزبه "المؤتمر الشعبي" من تأمين أغلبية في مجلس النواب، كما سمحت له بإعاقة عمل الحكومة اليمنية الجديدة.
في لحظة سحرية جديدة -ولكنها محببة للرئيس المخلوع هذه المرة- وجد صالح والحوثيون أنفسهم متوافقين بشأن كثير من الأمور من جديد، وبشكل غير متوقع. فلم يشعر الحوثيون بالارتياح لوقوفهم بجوار الإصلاح ومبادرة مجلس التعاون الخليجي، والأخيرة عارضها صالح من البداية كونها أطاحت به من السلطة، في حين كان كلا الطرفين "صالح والحوثيين" معارضًا لانتخاب "عبد ربه منصور هادي" رئيسًا لليمن عام 2012، لأسباب مختلطة تتراوح بين طموح صالح الشخصي، ورفض الحوثيين لهوية رئيس قادم من الجنوب لا تجمعه أي علاقة بالمذهب الزيدي.
بعد أن شارك كل من الحوثي وصالح في مؤتمر الحوار الوطني، من (مارس/آذار) 2013 وحتى (يناير/كانون الثاني) 2014، وجد الطرفان نفسيهما أنهما يقفان على أرضية واحدة من جديد في معارضة الاتفاق المقسم لليمن لأقاليم فدرالية. وبالنسبة لصالح، كان تعطيل أي تقدم سياسي في اليمن فرصة جيدة للانتقام من خصومه، وعلى رأسهم نائبه السابق والرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي، والإصلاح وعلي محسن الأحمر وحتى الرياض. أما الحوثيون، فإن تقسيم اليمن لستة أقاليم متساوية النفوذ تعارض مع طموحات هيمنتهم، كما أن هذا التقسيم يعنى أن صنعاء والشمال "معاقل المذهب الزيدي" سوف تفقد الكثير من نفوذها لصالح الجنوب والأطراف.
من الناحية الدينية المذهبية، ينقسم اليمن بأكمله بين الزيدية الشيعية وبين مزيج من الشافعية السنية والسلفية الحنبلية(12). هذا الانقسام الطائفي يكمن في جذور التقسيم الإقليمي للبلاد، بين المناطق الشمالية والشرقية من صنعاء العاصمة ذات الهيمنة الزيدية، والمناطق الوسطى والجنوبية والغربية ذات الهيمنة السنية، وللمفارقة فإن المناطق القبلية الداعمة لصالح هي ذاتها المناطق الحوثية. وعلى الرغم من أن الرئيس السابق لم يعتد على بناء قاعدة دعمه على أسس مذهبية، فإنه لم يكن بوسعه سوى الاستفادة من تقسيم المشهد الجديد. كانت علاقة الحوثي وصالح أشبه بتحالف بين جناح جهوي وبيروقراطي مثله صالح وأنصاره(13)، وبين جناح مذهبي تعبوي متمثلًا في جماعة الحوثي.
جاءت العقوبات الدولية من الأمم المتحدة على صالح ونجله أحمد بصحبة القادة الحوثيين عبد الخالق الحوثي وأبو علي الحكيم، لتسهم في تقريب الطرفين معًا في مواجهة المجتمع الدولي وخصوم صالح. وصار ذلك واضحًا حين بدأ الأخير يحث الحوثيين على التحرك عسكريا للاستيلاء على الأراضي، بداية من معركة عمران منتصف عام 2014، حين قصف الحوثيون مبانٍ يملكها علي محسن الأحمر، وعندما سقطت المدينة، اقتحموا منزل زعيم حزب الإصلاح محمد قحطان، في حين كانت المناطق ذات الوجود القوي للإصلاح في أقصى شمال البلاد، وغيرهم ممن يُعرَفون بمعارضة صالح، مستهدفة بإجراءات مماثلة. ولم يكد عام 2014 ينتهي حتى كان الحوثيون قد أحكموا قبضتهم على شمال اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء، وبدأوا بالتحرك نحو الجنوب.
حتى ذلك الحين، ورغم دعم وحدات الحرس الجمهوري الموالية لصالح لتحركات الحوثيين، لم يكن الطرفان قد أعلنا أي تحالف رسمي بينهما، وبدا أن الحذر وعدم الثقة المتبادل يهيمنان على العلاقة الناشئة، وظهر ذلك في إقدام الحوثيين على تعليق الدستور عقب استقالة الرئيس هادي ورئيس وزرائه خالد بحاح مطلع عام 2015، خوفًا من أن تؤول السلطة لبرلمان يسيطر عليه صالح بطبيعة الحال، وقاموا بتشكيل لجان ثورية لإدارة مؤسسات الدولة. ولكن التدخل السعودي في (مارس/آذار) 2015، تحت إطار عملية "عاصفة الحزم" أسهم في إدخال العلاقة بين الطرفين في طور جديد، حين أعلن صالح من أمام منزله بعد أن قصفته الرياض تحالفه مع الحوثيين لمواجهة الأخيرة. وفي (يوليو/تمّوز) 2016 أعلن الطرفان تأسيس مجلس سياسي مشترك لحكم البلاد، وألغى الحوثيون مرسومهم الدستوري وقرار حل مجلس النواب، وبدلًا من ذلك طلبوا من المجلس الانعقاد للتصويت على الموافقة على المجلس الجديد، وهو ما بدا أنه محاولة لتقويض شرعية الحكومة اليمنية المتحالفة مع الرياض(14).
بموجب الاتفاق السياسي الجديد بين الطرفين، كان من المفترض حلول المجلس السياسي الأعلى -المكون من عشرة أعضاء يتقاسمها الطرفان مناصفة- محل اللجان الثورية الحوثية التأسيس والحاكمة للجزء الأكبر من اليمن بحكم الواقع. كما نص الاتفاق على أن يتبادل الحوثيون وأنصار صالح رئاسة اللجنة السياسية العليا كل أربعة أشهر، ولكن الوقائع على الأرض ظلت مختلفة، حيث تمسكت اللجان الثورية بإدارة المؤسسات، ورفض الحوثيون التخلي عن رئاسة المجلس لأنصار صالح، وظهر أن أيًا من الطرفين لم يكن مستعدًا لتقديم أي تنازلات للآخر.
رقصة صالح الأخيرة
واصلت اللجان الثورية التضييق على أنصار صالح، ومارست استبعادًا ممنهجًا للبيروقراطيين المرتبطين به، ولم تخل حكومة الإنقاذ الوطني الضخمة، المكونة من 42 وزارة، والمشكلة بعد أربعة أشهر كاملة من الاتفاق بين صالح والحوثيين برئاسة عبد العزيز بن حبتور، من تجليات الخلاف بين الفريقين. كان العدد الضخم لوزراء الحكومة وحده كافيًا للتدليل على مدى تعقيد عملية الحفاظ على الولاءات داخل كل طرف، وحجم الجهات المطلوب إرضاؤها، كما أنه عكس أيضًا الأولويات المبدئية للطرفين، فبينما اهتم الحوثيون بوزارات تمنحهم سيطرة على الشأن الداخلي مثل التربية والتعليم أو المعلومات، أخذ حزب المؤتمر الشعبيّ العام الوزارات المرتبطة بعلاقات مع القوى الخارجية مثل الدفاع والاتصالات والنفط.
سرعان ما أصبح واضحًا أن كل طرف في تحالف الأغيار يحاول استخدام الآخر جسرا لتحقيق مآربه الخاصة. بالنسبة للحوثيين -الذين ينظرون لأنفسهم بأنهم الطرف الأكثر محورية وسيطرة- لم يكن صالح يمثل أكثر من جسر نفوذ سياسي يمكنهم عبره من التفاوض مع القوى الخارجية مثل السعودية(15)، في وقت يستثمرونه لتقليص نفوذ صالح الداخلي إداريًا وأمنيًا(16)، وفصل واستبعاد وربما اعتقال الضباط الموالين له، وتهميش دوره في التغطية الإعلامية، وفرض صيغة أيدولوجية للصراع من خلال السيطرة على الإعلام والمناهج التعليمية. ومن ناحية صالح، فإن الرئيس المخلوع كان يأمل في الوصول للسلطة من جديد على أكتاف خصومه القدامى، خصوم اهتموا بتعزيز قدراتهم العسكرية مقابل إمكانات سياسية متدنية.
لم يتطلب الأمر أكثر من بعض الوقت قبل ظهور الخلاف(17)، وتراشق الطرفان الاتهامات على شاشات التلفاز، فبينما اتهم عبد الملك الحوثي الرئيس المخلوع بنقض الاتفاق والتواصل مع السعوديين، رد صالح باتهام الحوثي بنهب الأموال العامة والتمسك بسيطرة اللجان الثورية. وسرعان ما تحول ميدان السبعين لساحة للحشود المتبادلة بين الفريقين، وبدا أن التحالف على وشك الانهيار، وكانت تلك أخبار أكثر من جيدة للتحالف السعودي.
على مدار أشهر طويلة عملت المخابرات السعودية على إيجاد شرخ في تحالف الخصمين العنيدين من خلال التفاوض بشكل منفصل مع كل منهما(18). ومع التقدم الزمني في الحرب بلا نهاية واضحة في الأفق، توصلت الرياض بشكل تدريجي لقناعة بصعوبة استبعاد الحوثيين من المشهد السياسي بالكلية، لذا عمدت لفتح قناة تفاوضية معهم. وفي 7 (مارس/آذار) من العام الماضي 2016 التقى مسؤولون من رئاسة المخابرات العامة السعودية، بقيادة علي الحمدان، سفير الرياض السابق في صنعاء حتى (سبتمبر/أيلول) 2014، مع وفد من الحوثيين بقيادة المتحدث الرسمي "محمد عبد السلام" والقيادي الحوثي "يوسف الفيشي" في عسير(19).
بدا إرسال الفيشي، عضو المجلس الثوري للجماعة، للقاء السعوديين بادرة حُسن نيّة من قبل الحوثي، حيث يعد الفيشي القيادي الحوثي الأكثر قبولًا لدى السعودية، كما سبق له انتقاد تصريحات العميد مسعود الجزائري، نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، عندما قال إن طهران تعتزم إرسال جنود لليمن كما فعلت في سوريا.
لم يسفر اللقاء عن شيء بسبب سقف المطالب المرتفع للسعوديين الشامل لانسحاب الحوثيين من مناطق سيطرتهم، وتفكيك ميليشياتهم المسلحة، وقطع أي علاقة لهم مع إيران وعلي صالح، وهي ذات المطالب الواردة بنصوص قرار مجلس الأمن المرفوض من الحوثيين من قبل، لذا فإن الحرب استمرت لأشهر تالية. وعلى الجانب الآخر، كان الطرف الآخر في تحالف "عاصفة الحزم"، الإمارات العربية المتحدة، يراهن على أوراقه الخاصة، وأبرزها نجل صالح المقيم في أبو ظبي ورئيس الوزراء الأسبق خالد بحاح. وتسببت رهانات أبو ظبي الخاصة بإغضاب عبد ربه منصور هادي وحلفائه في الرياض، مما تسبب في نشوب فجوة بين الرياض وأبو ظبي بشأن اليمن(20). وبدا أن الرفض السعودي أصبح يمثل الحاجز الرئيسي أمام طموحات صالح لاستعادة سلطته، ولكن هذه المرة من البوابة الخليجية.
إلا أن الأقدار بدت وكأنها تشير لانفراجة بطموحات مروض الأفاعي صالح، فولي عهد أبوظبي محمد بن زايد هو صاحب السلطة الأكبر في اليمن اليوم، وهو من يدير الأمور فعليًا في عدن وليس الرئيس هادي أو حتى السعودية، وهو لا يريد بوضوح استمرار حكومة هادي في السلطة في ظل تحالفها مع التجمع اليمني للإصلاح، ومع كون علي محسن الأحمر يحتل موقع نائب الرئيس. وعلى عكس السعودية المستعدة لمنح اليمن استثناءً من حملتها الشعواء على الإسلام السياسي لوقف أتون حرب بدأتها هي في حديقتها الخلفية، بدت أبوظبي متمسكة بسياستها التقليدية، وكانت الخطوة المنتظرة هي قيام ابن زايد بإقناع الرياض بالتخلي عن هادي.
لم تُضع الإمارات الكثير من الوقت، خاصة وأنه منذ صعود محمد بن سلمان لمنصب ولي العهد السعودي في (يونيو/حزيران) الماضي، أصبحت الرياض أكثر انفتاحًا على فكرة عودة السلطة لصالح المكروه منها. وسرعان ما استقل أحمد العسيري، نائب رئيس الاستخبارات السعودية والذراع اليمنى لابن سلمان، طائرته لأبو ظبي للقاء أحمد علي صالح(21). كان من الواضح أن ابن زايد نجح في الحصول على مباركة صديقه الجديد ابن سلمان عبر جهود مكثفة بذلها طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن القومي الإماراتي، لإقناع ابن سلمان لتفويض أحمد صالح بقيادة مفاوضات مبدئية لتشكيل حكومة جديدة في اليمن، يتقاسم هو فيها السلطة مع خالد بحاح الموالي لأبوظبي.
لم تدخل الخطة الجديدة حيز التنفيذ النهائي بعد، ومع سيولة حالة التحالفات والعداوات اليمنية الشديدة، فإن كل السيناريوهات تبقى مفتوحة على التغيير. ورغم التراشق العلني والاقتتال بينهما، لا يزال كل من الحوثي وصالح يحافظان على شعرة معاوية بين بعضهما البعض. فيتمتع الحوثيون بالسيطرة الفعلية على الأرض، بمعنى أن صالحًا أو نجله لن يكون بإمكانهما تولي أي سلطة فعلية دون مباركة من الحوثي، كما أن الحوثي لا يزال بحاجة لجهود علي صالح للمضي قدمًا في أي مسار سياسي رغم استمراره في جهوده لتقويض سلطته الفعلية، فيما يبقى انهيار تحالف الحوثي وصالح رسميًا ليس أكثر من مسألة وقت، وتبقى القضية الحقيقية إذا ما كان انهيار هذا التحالف بإمكانه حقًا أن يجلب السلام لليمن كما تُصرح الرياض بأمانيها الرسمية، أم أن كل ما سيقوم به هو تبديل مواقع القوى المختلة في لعبة الكراسي الموسيقية الأكثر دموية، أو بعبارة أخرى إذا ما كان صالح سيخرج من هذه المغامرة منتزعًا مقعد السلطة من جديد له أو لنجله، أم أنها ستكون حقًا رقصته الأخيرة.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها