قصة زعيم يشبه الرُّسُل !!
" ساتيا جراها " تعني المقاومة السلبية ؛ لكنها وفق تأصيل مؤسسها المهاتما غاندي باتت تُعرَّف بانها قوة الحق أو صلابة المحبة ، وعلى قوة الحق وصلابة الايمان بالتعاضد الانساني العادل والمنزهة من العنف والكراهية والتمييز والاضطهاد ؛ كان الهندي النحيل الاسمر قد استهل حياته السياسية والنضالية والكفاحية والمهنية .
غاندي الباحث عن وظيفة مُعلِّم يداري بها خجله الكبير كمحام متدرب تنقصه الجرأة والتجربة ، يسوقه القدر الى جنوب افريقيا مطلع تسعينات القرن قبل المنصرم ،فمن القارة السمراء تحديدا بدأت قصته الانسانية والمهنية والكفاحية ، قصة بدأت فصولها بقضية نزاع - ما بين تاجرين مسلمين هنديين - حول ملكية عقار أخذ من الاثنين سنوات من التنازع امام القضاء بمختلف درجاته وتكويناته .
لم يأبه غاندي بكونه محاميا ولا بكونه سيخسر ماله نظير دفاعه عن احد المتخاصمين ، لجأ وبطريقة ذكية - قلما توجد في مهنة المحاماة – الى تغليب البعد الانساني الصادق والنزيه والخالي من الشك والطمع والحيلة والمكر ، ففي ايام وجيزة قدر التوصل الى اتفاق ودي ومنصف عاد بمقتضاه العقار لموكله فيما حفظ لخصمه كبريائه وتجارته التي كانت عرضه للإفلاس في حال بقي موكله على عناده ورفضه لتقسيط ديون خصمه المستحقة له .
ومن قوة الحق وعزيمة الرجل الفولاذية تجلت شخصيته الساحرة ، ومن حركته الشعبية المدنية السلمية العقدية أخذ أسمه ينمو ويكبر ، وحركته تتمدد وتتسع بين قرابة 30ألف هندي مُضطَهد في جنوب افريقيا حينها ، وقدر له في بضعة سنوات جعلها قوة فاعلة وحاضرة في مختلف وسائل الاعلام الدولية والمحلية والهندية ناهيك عن حضورها القوي والمؤثر في ردهات القضاء والبرلمان وفي توقف الانتاج وزيادة الاعباء الاقتصادية على كاهل النظام العنصري كما أنه وكلما امعن في القمع والاعتقال للهنود المحتجين زادت عزلته وساءت صورته وتفاقمت وضعيته .
قصة زعيم بحجم غاندي بكل تأكيد مقامها يطول ،فشخصيته الفريدة والنادرة نالت اعجاب واحترام خصومه قبل اصدقائه ،فلم يخط امير الشعراء احمد شوقي حين شبهه بالرسل قائلا :
شَبِيهُ الرُّسْلِ في الذَّو د عَنِ الحَقِّ وفي الزُّهدِ
لَقَد عَلَّمَ بالحَق وبالصَّبرِ وبالقَصدِ
إما اسلوبه الكفاحي لأجل تحرير هنود جنوب افريقيا من الرق والاضطهاد والتمييز العرقي العنصري الكريه ؛ فلقد أجبر حكومات الجنرالات الاوربيين للرضوخ لمطالب الاقلية الهندية ، إذ تم اسقاط القوانين العنصرية ، والغاء التمايز المقيت المتحيز للبيض والمنتهك لحق الهنود في الحياة الحرة الكريمة والمتساوية ، كيف لا ؟ وطريقته السلمية غير عنيفة انتزعت ما لم يستطع تحقيقه الزعيم نيلسون مانديلا وقومه الغالبية السوداء التي تأخرت قرابة ثمانين سنة تقريبا؛ لحتى تهتدي لجادة التعايش بسلام ووئام مع اقلية بيضاء استوطنت بلدهم بدءا من مطلع القرن التاسع عشر .
ربما بعضكم لا يعلم مقدار الأذى الذي طال الرجل الهزيل ، فبرغم انه سليل اسرة معروفة ومتميزة تبؤات مقاليد الحكم إذ يكفي هنا الاشارة لأن جد غاندي شغل منصب رئيس لحكومة الولاية كما ان ولده – ايضا – رأس حكومة الاقليم وتولى مسئوليات .
ومع هذه المكانة العائلية والوظيفية ماتوا جميعا بسطاء وفقراء وكأنما هؤلاء القوم اقرب للملائكة لا البشر الذين إذا ما حكموا تفرعنوا وتسلطوا ونهبوا وقتلوا ، وإذا ما رأوا مالا أو عقارا أو ثروة زاغت عقولهم وانتفخت كروشهم وزادت مطامعهم ولصوصيتهم وخرابهم .
غاندي لا يشعرك وانت تقرأ سيرة حياته - " في سبيل الحق " أو كما يطلق عليها ايضا " قصة حياتي " – بكونه زعيما سياسيا وتاريخيا وكفاحيا فحسب ؛ وإنما تجد فيه قيمه انسانية وايمانية ومثالية وسلوكية وفكرية تتعدى موطنه الهند الى دول العالم قاطبة ، نعم أنه ومثلما قال شوقي في قصيدته " تحية لغاندي " يشبه الرسل في زهده وصدقه وتواضعه وايمانه القوي والمطلق بالحق والعدل والحياة الحرة الكريمة .
ربما أخذتكم بعيدا عن فكرة الموضوع ؛ لكنني اجد في شخصية غاندي ما يبرر الخرق لسياق الحديث عن طريقته المبتكرة الملهمة اليوم لثورات الشعوب ، فلكم ان تتصوروا كيف ان الرجل وهو يسرد قصته لم يخف شيئا ذي بال إلا واوردها كما هي ودونما زيف او تحفظ ؟ يذكر مرة كيف انه لم يحتمل سرقة اخيه بضعة عانات ؟ وكيف انه كاشف ابيه بفعلته الطفولية مستسلما لعقوبة والده طريح مرضه ؟ وكيف ان اعترافه بذنبه قوبل برضاء وابتسامة ودموع وغفران لم يكن بخلده ؟ .
خلال دراسته في المملكة المتحدة لم يهن او يضعف لتلكم الظروف القاسية مناخيا ومعيشيا وتعليميا وثقافيا وعقائديا وحضاريا ، فبرغم قسوة العيش في بلد لا يستطيع مجتمعه الحياة دون لحم البقر والبيض والجعة ؛ إلا ان الشاب الغض النحيل قدر له قضاء ثلاث اعوام دونما يخلف بوعده لامه وزوجته واخوانه .
يعترف بانه لم يبتلع شريحة لحمه او يشرب مرقا او خمرا ، ليس للمسألة علاقة بمعتقده الهندوسي المحرم فيه أكل اللحم والبيض ؛ وإنما وفاءً لعهد قطعه لامه واهله مقابل موافقتهم له بالسفر الى بريطانيا ، فبرغم انه قد سبق له أكل اللحم لمرتين متتاليتين ومن وراء والديه حين كان تلميذا في المدرسة ، وكذا اعتقاده القوي الذي تشكل لديه تاليا مفاده : انه ما من قوة ضعيفة وهزيلة لا تأكل اللحم يمكنها هزيمة المستعمر الانكليزي .
ومع اعتقاده بحتمية الثورة على التعاليم الموغلة في جمودها وتخلفها ؛ ظل الرجل وفيا ومخلصا لعهد قطعه ، إذ وطوال فترة اغترابه التزم وبصرامة ومشقة على أكل كل ما هو نباتي وخالي من اللحم والكحول ، كما انه وبكل ادب وطهر يعتذر للفتيات الانكليزيات اللائي قدمن له كصديقات او انيسات معاشرة ؛ لكنه لم ينساق خلف شهوته ونزوته إذ كتب بلطف وتعفف جم قلما تجده في اناس كُثر يدعون العفة والطهارة والزهد والتنطع في الدين فيما هم في جوهرهم جامحون للرذيلة والشهوة والجشع والرياء وأكل السحت وووالخ .
الكلام عن غاندي يستلزمه كتابا لا تناوله كهذه ، إنه صنف أقرب للأنبياء منه للزعماء أو القادة التاريخين الذي نذروا حياتهم لأوطانهم وشعوبهم ، وعندما نطلق مثل هذا الوصف ؛ فلأن الرجل جدير به ، لقد عاش حياة بسيطة يغمرها المحبة للخير والسلام والتوقير للأخر أيا كان جنسه ولونه ودينه ومعتقده ، قاوم وببدنه النحيل شتى صنوف التمييز والاضطهاد والعنف ، نذر عمره في سبيل حرية وطنه وشعبه ، رفض كافة مغريات الثراء والهيلمة والسلطان ، زهقت روحه ثمنا لإيمانه المطلق بقيم المحبة والتسامح والتعايش والنضال السلمي المدني الحضاري ، 21سنة عاشها منافحا ومناهضا للتمييز العنصري في جنوب افريقيا ، ومنذ عودته لوطنه سنة 1914م وثورته لم تهمد او تتوقف الى ان تحقق الاستقلال الكامل لبلده عام 47م وفي العام التالي قتلته رصاصات متطرف هندوسي فيما هو ذاهب لصلاته .
لم احدثكم كيف ان اسمه ارتبط بثورة الملح ؟ وكيف ان 6أبريل صار تاريخا لحركته السلمية المناهضة للاستعمار البريطاني ؟ كيف انه بدأ نضاله من داخل اسرته الصغيرة وتحديدا زوجته واولاده الذين اجهد ذاته في تربيتهم وتعليمهم بعيدا عن المدرسة وبمنأى عن زخرف الدنيا ومتاعها . لقد عانى الكثير كي ينزع عن قرينته ما الفت عليه من نظرة محتقرة للهنود المنبوذين ، ومن سلبية وتقاعس نحو الاخرين ، ومن حرمانها التليد لمظاهر البذخ واليسر .
ذكر انه رفع يده مرة في وجهها ، وهمَّ في طردها خارج داره أثر تأففها من غسل حساء أكل منه هندي منبوذ اثناء اقامة الاسرة في جنوب افريقيا ، كما وذكر مقدار ما بذله من محاولات لإقناع زوجته بتخليها عن حليها الذهبية المهداة لها قبيل مغادرة بريتوريا ، إذ كان وقتها قد تبرع ونجليه بكل ما أهدي لهم من مال او مقتنيات ثمينة نظير ما قدمه للجالية الهندية .
لم يكره زوجته على فعل شيء يظنه هذه المرة بالذات أمرا شخصيا وطوعيا يتعلق بها ، ظل يكرر محاولاته الى ان اقتنعت في النهاية وسلمت هديتها لبعلها راضية ومقتنعة بفكرة التأسيس لجمعية تعنى بالهنود الافريقيين ، والتي أسسها غاندي قبل عودته الى وطنه ، وكان نواة هذه الجمعية تبرعات عائلته بكل ما حصلت عليه من هدايا .
أطلت عليكم ؛ لكنني مع ذلك لم ولن أفي الزعيم الانسان الناسك حقه ، فيكفي القول هنا انه وعندما اندلعت ثورة استقلال باكستان بقيادة محمد علي جناح كان غاندي قد رفض استخدام منطق القوة إذ لاذ الى وسيلة الاعتكاف معلنا للطرفين المتقاتلين صيامه عن الكلام والزاد والشراب الى ان يتوقف اراقة الدم وعودة المتصارعين لجادة الحق والسلام والمحبة والمنطق والتحاور .
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها