تعرف على المذيعــة العدنية المحفورة في ذاكرة كل يمني"صورة"
هي أمّ كلّ أطفال اليمن. عاشت تجارب مريرة، وخرجت منها أكثر قوّة واعتداداً بالنفس. دوّنت اسمها كأوّل امرأة تعدّ برامج إذاعية وتلفزيونية للأطفال، في سبعينيّات القرن المنصرم، كما ألّفت قصصاً حازت على جوائز عالمية. إنّها الدكتورة نجيبة محمود حداد، المشهورة بـ"ماما نجيبة".
ولدت في عدن سنة 1950م. وبعد أن أكملت عقدها الأوّل، اضطرت للعمل لتعيل أسرتها المكوّنة من 12 فرداً، بعد وفاة والدها، مع تمسّكها بحقّها في مواصلة الدراسة. وعندما بلغت 13 سنة تزوّجت، وهي ما زالت قاصرة، وبعدها بسنة أنجبت أوّل أبنائها، ثم توفّي زوجها وهي في سنّ الـ18. تزوّجت للمرّة الثانية، واستطاعت خلال تلك الفترة التي تصفها بـ"الذهبية" إعادة بناء شخصيّتها، وتطوير قدراتها بالإطّلاع والتثقيف الذاتي، والمشاركات في دورات داخلية وخارجية في ألمانيا ومصر، وغيرها.
المعاناة التي عاشتها نجيبة حدّاد في سنوات حياتها الأولى، وحرمانها من التدرّج في مرحلة الطفولة، دفعها للتعويض من خلال تعلّقها بالأطفال بشغف، فجعلت فكرها وإبداعها ينصبّ على كيفية إسعادهم، وتحسين ظروف حياتهم، ورسم خطوط عريضة لمستقبلهم على الصعيدَين الأسري والمجتمعي، إلى جانب نضالها المستميت ضدّ الزواج المبكر للصغيرات في السنّ.
في البداية، خطّطت لإعداد برنامج للأطفال يُبثّ عبر أثير "إذاعة عدن"، في الفترة التي كانت تعمل فيها مسؤولة بريد الإذاعة، بالأجر اليومي، ثمّ ضابطة صوت عام 1968م، قبل أن يتمّ تعيينها مسؤولة إدارة قاعة غاندي في عدن للأنشطة الثقافية والفكرية. وفي مطلع السبعينيّات، أخرجت فكرتها إلى النور لتشكّل نقلة نوعية في البرامج المقدّمة للأطفال على مستوى الجزيرة العربية.
اقتضى إعداد البرنامج أن تنبش في الكتب التي تتحدّث عن عالم الطفولة، وتنسج علاقات مع الأخصائيّين في مجال الطفولة، والإطلاع على أحدث كتابات قصص الصغار، كي تستوعب أكثر تكوينهم الفطري، وتلمّ باحتياجاتهم المختلفة. واعتبرت أن الظروف العامّة، آنذاك، كانت مشجّعة لها على إنجاز مشروعها كما تصوّرته وخطّطت له، بالإستعانة بكوادر عدن وأرشيفها الواسع، كما استفادت في ذلك الوقت من المناخات الإجتماعية المواتية، حيث كانت الأسرة والمدرسة والمسجد كلّها مؤسّسات تؤدّي أدواراً بالتزام في تنشئة الأطفال ورعايتهم، وكان الكلّ يحاول أن يقدّم طبقاً متكاملاً لتغذية الطفل فكريّاً وثقافيّاً، عكس ما هو حاصل اليوم في زمن الأزمات والحروب والتفكّك الأسري والمشكلات العائلية المتفاقمة، التي يدفع ضريبتها الأطفال أوّلاً وأخيراً. كانت حدّاد من أوائل من ساهمن في إصدار مجلّة للأطفال بعنوان "الطفولة"
عندما قرّرت "ماما نجيبة" الإنتقال في مجال الكتابة للطفل من البرامج الإذاعية والمرئية إلى الكلمة المخطوطة، لم تغفل صعوبة المهمّة والمسؤولية الكبيرة التي تحتاج إلى تقنيات وملكات غير اعتيادية، مع تحديد مضمون الرسالة وأهدافها وكيفية إيصال الرسالة كاملة للطفل. الكمّ الهائل من المعلومات التي اكتسبتها خلال إعداد البرنامج، إلى جانب خبرتها الحياتية وتجاربها الخاصّة، شكّلت الرافعة التي فجّرت فيها موهبة تأليف قصص للأطفال، تلمّست في موضوعاتها مشكلاتهم، ووضعت المعالجات المناسبة لتجاوز آثارها الوخيمة على مسار حياتهم البالغة الحساسية والتعقيد.
نشرت أوّل كتاباتها في مجلة الحرّية البيروتية بالمراسلة عبر البريد، بعدها أصدرت في 1975 قصّة "حكاية لعبتي"، التي استقت فكرتها من تطوير ألعاب الأطفال بوسائل التكنولوجيا الحديثة ابتداءً بالبطّاريّات، وأسهبت في الحديث عن دلالات هذه الألعاب، وآفاق تطوّرها، وكيف ستؤثّر على سلوكيّات الأطفال؛ وقصّة "سارق العسل" التي تُرجمت إلى 14 لغة، وحصلت على جائزة الروبل الفضية في الإتّحاد السوفيتي عام 1985م.
إلى جانب أنّها تُعدّ أوّل امرأة تنشئ إدارة المرأة والطفل في تلفزيون عدن، كانت كذلك من أوائل من ساهمن في إصدار مجلّة للأطفال بعنوان "الطفولة" وترأّست تحريرها، لكن جهودها انقطعت بسبب الظروف المادّية التي ألمّت بها، قبل أن يشكّل تعيينها مديرة إدارة ثقافة المرأة والطفل في وزارة الثقافة، ثمّ وكيلة وزارة الثقافة - قطاع الفنون الشعبية والمسرح - ناصية انطلاق لعطائها اللامحدود، في رسالتها النبيلة لتحصين وعي الأطفال، الذين حذّرت من خطورة عدم تشجيعهم على قراءة الكتب، وتركهم صيداً سهلاً لعصر الفضاءات المفتوحة، والتأثّر بإيقاعات الزمان السريعة التي أفرزتها مواقع التواصل الإجتماعي.
تُحمّل "ماما نجيبة" جانباً من المسؤولية في تدهور أوضاع الطفل العربي اليوم، الأسرة التي ترى في تثقيف الطفل من خلال المطالعة جانباً من الترف، رغم أنّه يُعدّ تغذية أساسية وفكرية، تسهم في بلورة شخصيّته، كي تتأقلم مع كلّ الظروف المحيطة به، كما أنّها تنتقد باستمرار غياب التنسيق بين مؤسّسات الجامعة العربية ودور النشر لطباعة الكتب وتسويقها بأسعار معقولة، دون إغفالها أن الأوضاع الإقتصادية المتردّية أدّت إلى عزوف أولياء الأمور عن الإهتمام بحثّ أبنائهم على قراءة الكتب المتطوّرة ذات التقنية العالية والرسوم المعبّرة، فبينما لم تعد الأسرة في العالم العربي قادرة على شراء كتاب لابنها لا يتجاوز سعره دولاراً أو دولارين، فإن نظيرتها في أوروبا مثلاً قد تدفع 200 دولار على كتاب واحد لتهديه لطفلها كي يستفيد ويتعلّم.
كتابات "ماما نجيبة" كانت موجّهة للأطفال من سنّ الخمس سنوات إلى ثلاث عشرة، وتعلّمهم من خلال مواضيعها حبّ القراءة وإتقان اللغة إلى جانب تنمية القيم الأصيلة وزرع بذور الولاء للوطن، وهي تعتمد في الكتابة على حروف الهجاء ولغة القرآن الكريم، لسهولة فهمها واستيعاب مضامينها.
عندما تثير "ماما نجيبة" مشكلات واقعية تعاني منها الأسرة والمؤسّسات التربوية والتعليمية، ما يجعلها غير قادرة أو مؤهّلة لرعاية الأطفال الرعاية السليمة، فإنّها تقدّم مباشرة الحلول الموضوعية لتجاوزها، فهي تقترح أنّه يمكن تعويض عدم استطاعة المدارس تنظيم زيارات دورية للمكتبات العامّة، بأن يُطلب من كلّ طفل شراء عنوان واحد، يوضع في رفّ في الصف يحتوي مثلاً على 30 قصّة، يتمّ نقله كلّ شهر لصفّ آخر، في إطار عملية "مبسّطة" للتبادل الثقافي، نغرس من خلالها في نفوس الطلاب حبّ القراءة بطريقة سهلة ودون تكلفة عالية.
كُرّمت "ماما نجيبة" في أكثر من مناسبة داخليّاً وخارجيّاً، كما أنّها اختيرت الرئيسة الفخرية لاتّحاد سفراء الطفولة العرب لعام 2010م، وحتّى اليوم مازالت مراكز أبحاث ومؤسّسات متخصّصة في مجال الطفولة والأسرة تستمدّ من أفكارها رؤية علمية لكيفية تطوير أدائها وخدمة المجتمع ككلّ.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها