الفنان علي الآنسي... "الضاحك على الأيّام"!
بينما كان مارّاً من أحد شوارع العاصمة صنعاء، سمع امرأة تصيح بنغمةٍ طويلةٍ، فوجد في صوتها مفتاح لحن مطلع أغنيته الملحمية "الحب والبن"، وهي واحدة من أبرز أعماله، في وقت لا يزال صوته الأوّل بلا منافس في اليمن، على الرغم من مرور 35 عاماً على رحيله.
إنّه المطرب والملحّن والعازف، علي بن علي يحيى الآنسي. اشتُهر بصوته المتميّز والأجمل بين كلّ الأصوات الفنّية اليمنية، التي عُرفت خلال العقود الماضية وحتّى اليوم، وباعتراف من أغلب من كتبوا وتحدّثوا عنه، ومن بينهم كبار الفنّانين في اليمن، وهو الأمر الذي يمكن أن يتلمّسه المستمع والمتذوّق للفنّ اليمني، من دون الحاجة إلى شهادات.
البدايات... تعزية
يعود لقب الآنسي إلى منطقة "آنِس" الشهيرة في محافظة ذمار. ولد في العاصمة صنعاء من أسرة فقيرة عام 1933، وكان أبوه ضابطاً في جيش المملكة المتوكّلية آنذاك. ومنذ سنّ مبكر، بدأ التأثّر بالغناء، عندما كان يسمع أصوات الرهائن المحتجزين لدى الإمام في قصر السلاح، الذي كان الآنسي يسكن بالقرب منه. تأثّر الفنّان اليمني بما يردّده الرهائن، وبقضيّتهم الإنسانية (كان النظام الإمامي يحتجز أطفالاً وأفراداً من بعض القبائل والأسر لضمان ولائها)، وهو ما رواه في مقابلة إذاعية نادرة، أشار فيها إلى أنّه حاول إيجاد لحن أغنية عن "الرهينة".
بعد ثورة 1948 الفاشلة، انتقل الآنسي مع أسرته إلى تعز، التي كانت بمثابة ثاني أهمّ المدن في الشطر الشمالي من اليمن حينها. وفي تعز، التحق بالجيش، ودخل المدرسة الأحمدية، وفيها بدأ ترديد الأغاني عندما كان ضمن مجموعة من الطلاب، اختيروا لأصواتهم المميّزة لأداء بروفات مدرسية. وبقي الآنسي في تعز فترة الخمسنيّات، وفيها أظهر إبداعاته الفنّية والأدبية المختلفة. وفي العام 1961، قام بزيارة إلى عدن والتقى بفنّانين مشهورين، من بينهم محمّد مرشد ناجي، وأبوبكر سالم بالفقيه، وفضل اللحجي، واشترك معهم بجلسات طرب.
أدّى الآنسي أغانيه باللون الصنعاني وأجاده على نحوٍ متفرّدٍ، بالإضافة إلى ألوان فنّية من مختلف مناطق اليمن، والوسطى بالذات، كمنطقة العدين في إب. غنّى للفلّاح والجندي والموظّف، وتميّز بصوته الشجي، الذي جعله يخترق قلوب قطاع واسع من اليمنيّين في القرى والأرياف.
ووفقاً لما يرويه في مقابلته الإذاعية، فقد لحّن أغاني قبل أن يؤدّيها، في الـ16 من عمره، غير أن أغانيه المسجّلة والمعروفة بدأت مع بزوغ فجر الجمهورية، التي أُعلنت عقب الإطاحة بالنظام الملكي الإمامي في 26 سبتمبر 1962، وكان الآنسي أبرز من واكبها بإبداعاته الفنّية المختلفة.
أناشيد وطنية
تميّز الآنسي بمجموعة من الأعمال الفنّية الثورية والوطنية، التي تُحفظ وتُردّد حتّى اليوم. ومن أقدم تلك الأعمال، التي بدأت مع إعلان الجمهورية، "جيشنا.. يا جيشنا"، من كلمات الشاعر علي بن علي صبرة، الذي كان، إلى جانب مطهّر الإرياني وعبّاس المطاع، ثالث أبرز شعراء، شكّلوا مع الآنسي ثنائيّاً إبداعياً في العديد من الأناشيد والأعمال الغنائية الوطنية والعاطفية.
كان الآنسي ملحّن أوّل نشيد في "الجمهورية العربية اليمنية" (الشطر الشمالي)، ومطلعه "في ظلّ راية ثورتي"، من كلمات الشاعر أحمد العماري. ومن أعماله الغنائية الفريدة والمتميّزة، والتي تُبثّ بصورة متكرّرة على القنوات الفضائية اليمنية والإذاعات، "نحن الشباب" للشاعر عباس المطاع، وفي مطلعها "لبّيك يا يمن الحضارة والخلود/ لبّيك يا رمز البطولة والصمود، بدمائنا وبلا حساب سنفتدي أرض الجدود، بكفاحنا نحن الشباب، حتّى نؤكّد للوجود صدق الوعود/ وبأنّنا أشبال من صنعوا السدود...". وفيها "يا ابن (السعيدة) لا تقل فات القطار/ أنت القطار بلا محطّات انتظار".
وفي المرحلة التي تلت الثورة، كان ترسيخ الجمهورية، والحرب التي اندلعت، عقب قيامها، مع فلول الملكية، همّاً طاغياً على أغلب أعمال الرموز الأدبية والفنّية في ذلك الحين، ومن ذلك، أدّى الآنسي نشيداً نادراً من كلمات شاعر اليمن الكبير، عبد الله البردّوني، طَبَعه لحن وأداء متميّزَان، وشاركت فيه، إلى جانب الآنسي، الفنّانة نجاح أحمد، وفي مطلعه: مثّل الآنسي مدرسة للعديد من الفنّانين ممّن عاصروه أو جاءوا بعده
"اليوم يا تاريخ قف
أشر إلى اليا بالألف
لا تندهش لا ترتجف
ماذا ترى ماذا تصف؟
هذي الجموع تأتلف
وكالسيول تنقذف
لتسبق الوعد الأكف
مسيرها لا ينحرف
طريقها لا يختلف
عن عهدها السبتمبري"
أغاني عاطفية
أدّى الآنسي ما يزيد عن 50 عملاً غنائيّاً، أشهرها أغنية العيد الرسمية في اليمن، والتي لم تظهر أي أغنية لمنافستها، وهي "إضحك على الأيّام"، أو "آنستنا يا عيد"، من كلمات الشاعر عباس المطاع، وفي مطلعها "إضحك على الأيّام/ وابرد من الأوهام، وامرح مع الأنغام/ وافرح بهذا العيد.. آنستنا يا عيد".
وفي الجانب العاطفي، كان الآنسي صوتاً نادراً، له عدد كبير من الأغاني الشهيرة، أبرزها "خطر غصن القنا"، "ممشوق القوام"، "وقف وودع"، "مسكين يا ناس"، "وا مغرد بوادي الدور"، "يا ربة الصوت الرخيم"، "يا ليل هل أشكو"، "كسير الماس"، "حبيبي شاتسير"، "معشوق الجمال"، و"نجوم الليل تسألني"، وغير ذلك من الأغاني العاطفية الجميلة والمميزة.
ويبرز الآنسي في أحد أبرز الأعمال الغنائية على الإطلاق، المعروفة تحت عنوان "الحبّ والبنّ"، وهي أغنية عاطفية ووطنية وتاريخية في الوقت نفسه، وتُعدّ من أبرز أعمال الشاعر والمؤرّخ الراحل، مطهّر الإرياني (توفّي العام الجاري).
وحول هذا العمل، تتداول الأوساط اليمنية تصريحات منسوبة للآنسي، في إحدى المقابلات، تحدّث فيها عن الجهد الذي أخذه تلحين هذه الأغنية، خصوصاً مع مطلعها "طاب اللقا والسمر/ على قران الثريا"، إذ وأثناء مروره من أحد الشوارع سمع صوت امرأة تصيح بنغمةٍ طويلة، اختار منها اللحن، الذي يمدّ فيه كلمة "طاااااب"، مع إبداع وتميّز في مختلف مقاطع القصيدة.
وقد مثّل الآنسي مدرسة للعديد من الفنّانين ممّن عاصروه أو جاءوا بعده، حيث أُعيد أداء العديد من أغانيه من قبل أغلب الفنّانين اليمنيّين، وبقي صوته وأداؤه متفرّداً. ومن أشهر الأغاني التي تردّدت "وا مغرد بوادي الدور"، التي أدّاها العديد من الفنّانين، ومنهم أبوبكر سالم، محمّد عبده (الفنّان السعودي)، محمّد حمّود الحارثي، أحمد فتحي، وغيرهم، وكذلك أغنية "مسكين يا ناس"، التي أدّاها عدد كبير من الفنّانين في اليمن والخليج، وبقي أداء الآنسي وصوته الأشهر والأكثر إتقاناً، كما يرى أغلب من كتبوا عنه.
إلى جانب ذلك، أسهم الآنسي في كتابة عدد من الآغاني التي أدّاها ولحّنها، ومنها "سجدت سبحت لله"، "ليلك الليل يا ليل"، و"ما في مُعلَم خير"، وغيرها من الأعمال النادرة والمنتشرة على نطاق واسع.
أوسمة ورحيل
تقلّد الآنسي وسام الأداب والفنون من الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، مرّتين بعد وفاته؛ الأولى عام 1984 والثانية عام 1989. كما تقلّد وسام الفنون من الرئيس الأسبق في الشطر الجنوبي، علي ناصر محمّد.
وتوفّي الآنسي في الـ19 من أبريل 1981، بعد رحلة جعلت منه صوتاً حيّاً في قلوب اليمنيّين، فيما لا تزال أغانيه وأعماله تتردّد حتّى اليوم، كما لو أنّه لم يغب.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها