البنك المركزي... "بطل" في زمن الحرب
في تقرير صدر أمس الجمعة، تناولت وكالة "رويترز"، دور البنك المركزي اليمني الهام من خلال الإشادة بوقوفه على الحياد في الصراع الداخلي الدائر، وذلك عبر قيامه بتغطية دفع رواتب عناصر الجيش اليمني المنقسم على جبهتي ذلك الصراع، حيث يستمرّ البنك في تخصيص الموارد المالية اللازمة لواردات البلاد من الحبوب والقمح، وللعاملين في القطاع العام، سواء في مناطق سيطرة حكومة هادي، والمناطق التي يسيطر عليها من وصفهم التقرير بـ"المتمردين". وبعد إشارة التقرير إلى أهمّية دور البنوك المركزية في الحياة الإقتصادية للعديد من بلدان العالم، توقّف كاتبه، نوح براونينغ، عند مفارقة الدور الأكثر تواضعاً الذي يضطلع به البنك المركزي في بلد يعاني من حرب لأكثر من عام، كاليمن، والمتمثّل بمجرّد الحفاظ على البلاد من الإنهيار المالي والسكان من نفاد المواد الغذائية.
وبحسب مسؤولين عاملين في البنك المركزي وديبلوماسيين أجانب ومصادر سياسية محلّية استند إليها التقرير، فإن البنك المركزي الذي يتّخذ من العاصمة صنعاء مقرّاً له، والذي لا يخضع لسيطرة الحكومة المعترف بها دولياً منذ العام 2014، يمثّل آخر معاقل النظام المالي الفاعلة في إدارة الوضع الإقتصادي في البلاد.
وقد خصّص الكاتب، نوح براونينغ، نقلاً عن تلك المصادر، الجزء الأكبر من التقرير للحديث عن البنك المركزي، من خلال القول إن استقلال البنك "ليس مجرّد حاجة مؤسّساتية"، مشيراً إلى أنه يتعين على التجّار والدائنين الدوليين على السواء، الثقة بقدرته على السيطرة على سعر صرف الريال اليمني، وإدارة احتياطيات النقد الأجنبي، فضلاً عن أهمّية الثقة بسمعة البنك، كطرف محايد في الصراع السياسي الداخلي، من أجل الحفاظ على دوره في "تأمين واردات البلاد، ومنعه لحدوث مجاعة تلوم في الأفق، مضيفاً أن البلاد "تعتمد على استيراد 90 % من احتياجاتها الغذائية"، مع لحظه تراجع شحناتها منذ بدء الحرب. وأوضح التقرير أن 21 مليوناً، من أصل لها 28 مليون شخص، "بحاجة إلى بعض أشكال المساعدات الإنسانية"، وأن "أكثر من نصف السكّان يعانون من سوء التغذية".
كما نقل التقرير حديثاً لألبرت جايغر، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لليمن، قال فيه إنه "من الإنصاف القول إن البنك المركزي جدّي بالتأكيد حيال كونه محايداً في وضع سياسي وأمني صعب للغاية، وكونه نجح إلى حدّ كبير في الحفاظ على الإستقرار المالي الأساسي طوال فترة الصراع".
مع ذلك، ألمح التقرير، نقلاً عن المصادر المشار إليها أعلاه، إلى غياب الشفافية فيما يتعلّق بالمبالغ التي ضخّها البنك المركزي في السوق اليمنية منذ بداية الحرب، وقد جرت العادة، ومنذ إعلان مدينة عدن "عاصمة مؤقّتة" من جانب حكومة الرئيس هادي، أن يعمد البنك المركزي إلى إرسال الأموال عبر ميناء المدينة إلى الأطبّاء والمعلّمين وبعض جنود القوّات الحكومية التي تسيطر على مناطق في جنوب وشرق البلاد، كما كان من المعتاد أن تسلك طائرة واحدة محمّلة بعدة ملايين من الدولارات، مرّة كل بضعة أسابيع، المسار نفسه، وللمهمّة نفسها، قادمة من صنعاء، حيث يقع البنك المركزي، في مدينة عدن الجنوبية، وفق ما ذكرت المصادر، مع الإشارة إلى المخاوف التي أرخت بظلالها على مستقبل دور البنك المركزي في صنعاء إثر تعهد الرئيس هادي بجعل مدينة عدن "عاصمة ثانية" للبلاد.
إلى ذلك، أفادت مصادر في البنك المركزي لـ"رويترز" أنهم "غير مخوّلين للحديث علناً (بشأن الوضع المالي)"، شأنهم شأن المصادر السياسية المحلّية والديبلوماسية الخارجية "نظراً إلى حساسية الموقف". كما ذكّر التقرير بتصريحات المتحدّث باسم البنك عبّر فيها عن عدم رغبته بإجراء مقابلات خلال الأزمة. نجح إلى حدّ كبير في الحفاظ على الإستقرار المالي الأساسي طوال فترة الصراع
حاول التقرير استعراض التسلسل التاريخي للأزمة اليمنية ربطاً بالصراع الجاري بين إيران والسعودية، والذي يكاد يطغى على مجريات الأحداث بشكل أكبر، من أرقام ضحايا الحرب من القتلى الذين يفوق عددهم الستة آلاف شخص، والمشرّدين المقدّرة أعدادهم بنحو 2.5 مليون شخص، وركّز على "الصراع في سبيل الحصول على الإمدادات الأساسية، مثل الغذاء والوقود والدواء في ظلّ حصار التحالف للموانئ"، لافتاً إلى أن "البنك المركزي يلعب دوراً رئيسياً في الحفاظ على وصول السلع الحيوية، وتأمين واردات الدقيق والحبوب وفق الأسعار الرسمية، لكنه ألغى مناقصات مخصّصة لشراء الأرز والسكر في شهر فبراير، مع تضاؤل الإحتياطيات بالدولار".
وبحسب ما جاء في تقرير لوكالة "رويترز"، في شهر مارس، فقد أوقفت البنوك الغربية العمل بخطوط الإئتمان (مع اليمن)، التي يستفيد منها مستوردو المواد الغذائية بسبب الإنفلات الأمني، وهشاشة النظام المالي، علماً بأنها تتردّد بشدّة في موضوع فتح اعتمادات جديدة لهذا الغرض. وبحسب ما أفادت المصادر لـ"رويترز"، فإن "أي إشارة، على سوء إدارة السياسات المالية، وعلى تضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي- المستخدمة في تغطية مدفوعات الواردات- من الممكن أن تؤدّي إلى هبوط أوسع في الواردات"، كما أنه "في حال خضعت السياسة النقدية للضغوط، أو المصالح السياسية، قد يفقد الريال قيمته، والتضخّم سيرتفع، ولن يمكن صرف رواتب الموظّفين العموميين، وسيتعذّر تأمين الواردات من المواد الغذائية"، وفق ما ذكرت مصادر في البنك المركزي، عبّرت بدورها للوكالة عن "فخرها" بتمّسك البنك بسياسته المستقلّة، رغم تبني موظّفيه لوجهات نظر سياسية، وذلك منعاً لأي تأثيرات سلبية على حياة المواطنين العاديين.
وأضافت مصادر سياسية، لـ"رويترز"، بأنه من المرجّح أن يكون "الحوثيون" قد حصلوا على نصيب أوفر من أموال البنك المركزي، مقارنة بما حصلت عليه قوّات حكومة هادي، لا سيما وأنهم حين فرضوا سيطرتهم على صنعاء، قاموا بإضافة أسماء الآلاف من المقاتلين إلى قوائم الجيش بما يترتّب على ذلك من رواتب يحصلون عليها من الأموال العمومية. أما فيما يتعلّق بقوّات حكومة هادي، فأوضح التقرير أنه جرى "تجنيد العديد من القوّات الموالية للحكومة بعد اندلاع الحرب"، رغم أن أسماء عناصرها "لم تكن مدرجة على (تلك) القوائم"، وبالتالي عدم أحقّيتها في تلقّي رواتب من الحكومة، مشيراً إلى حصولهم على "رواتب من التحالف الذي تقوده السعودية". كما ألمح تقرير "رويترز"، وفقاً لتلك المصادر، إلى وجود اتفاق بشأن "هدنة اقتصادية غير مكتوبة بين الطرفين المتحاربين، بحيث يبقى بموجبها، البنك المركزي اليمني "متحرّراً من التدخّل السياسي لتفادي الإنهيار الإقتصادي".
وقد أرجع التقرير لمحمد بن همام، حاكم البنك المركزي اليمني، البالغ من العمر 69 عاماً، والذي "تربطه علاقات ودّية ووثيقة بكلا الجانبين، الفضل في الحفاظ على استمرار وبقاء البنك، مذكّراً بفرار العديد من الوزراء اليمنيين إلى ما وصفها بـ"دار الضيافة الفاخرة في الرياض"، إثر تدخّل "تحالف دول الخليج العربي" في اليمن.
وقد توقّف التقرير ملياً عند حادثة خروجه المفاجئ من العاصمة اليمنية، صنعاء، وما أثارته من تكهّنات بشأن انشقاقه وانضمامه للمعسكر المؤيّد للرياض، بيد أن بن همام "سافر إلى المملكة العربية السعودية، حيث التقى مسؤولين حكوميين هناك، وتلقّى ضمانات باستمرار احترام حيادية البنك" قبل أن يعود، و"يُستقبل كبطل"، مستذكراً لقطات الفيديو التي أظهرت ترحاب مرؤوسيه من الرجال والنساء بعودته.
وعن واقع حال المصرف المركزي اليوم، في ظل تناقص احتياطياته من القطع الأجنبي، من حوالي 4.7 مليار دولار عام 2014، إلى نحو 1.1 مليار دولار حالياً، أفاد التقرير بأنه "وعلى الرغم من الجهود المبذولة لدعم الإقتصاد، فقد يكون البنك المركزي قد استنفد خياراته"، مشيراً إلى التحدّيات الإقتصادية الجسيمة التي كانت سائدة، حتّى في فترة ما قبل الحرب، ولكن مع فارق وحيد، وهو أن النفط كان بمثابة "النعمة الوحيدة" التي يعوّل عليها في البلاد، باعتبار أن "صناعة الطاقة كانت توفر نحو 80 % من الموازنة العامّة للدولة، وما يقرب نصف تدفّقات العملة الأجنبية". أمّا في الوقت الراهن، "فقد توقّفت الصادرات (النفطية بشكل خاص) منذ أكثر من عام، كما انسحبت الشركات الأجنبية خارجاً"، وكذلك لم تتمّ استعادة حكومة هادي السيطرة على أكبر ميناء يمني لتصدير النفط، إلا في أواخر إبريل، فيما لا يزال الميناء الرئيسي لتصدير الغاز تحت سيطرة المسلّحين. الملاحظة الأساسية التي أشار إليها التقرير، بشأن سياسة البنك المركزي، هي أن الأخير، وفي الوقت الذي لا يملك فيه الوسائل والإمكانيات المناسبة لتجديد احتياطياته من النقد الأجنبي، "قد أحرق احتياطياته"، نتيجة مواكبته الدائمة والمستمرّة منذ اندلاع الحرب، لالتزامات اليمن تجاه دائنيه الخارجيين، وتغطيته للواردات، لا سيما الغذائية منها.
وعلى ضوء ما خلص إليه تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي بشأن كفاية الإحتياطيات النقدية الأجنبية لدى المصرف المركزي اليمني، لسداد الواردات لمدّة تقل عن الشهرين، وتصنيف الصندوق لتلك الإحتياطيات بـ"المنخفضة جدّاً جدّاً"، نبّهت "رويترز"، نقلاً عن أحد الديبلوماسيين الأوروبيين، إلى أن "الإنهيار الإقتصادي هو تهديد حقيقي وشيك"، مضيفة أن أي اتفاق سلام سريع قد يترتّب على المحادثات اليمنية "المتخبّطة" في الكويت، من شأنه أن يحبط كارثة.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها