عبدالرحمن جحاف شاعر الغرام وقصته مع الحياة
تخليداً لذكرى الشاعر والأديب اليمني الكبير علي عبدالرحمن جحاف الذي وافته المنية ورحل عن الدنيا يوم الثلاثاء 31 مايو/ آيار 2016.
يقول أحد الفلاسفة: إذا كان مخترعو الآلات قد أضافوا إلى النوع البشري أشياء هي بمثابة الأعضاء المساعدة لجسمه، فإن الشعراء قد منحوه منحة أسمى وأشرف؛ إذ فتحوا نوافذ جديدة في أرواحنا.
وهم يفتحون تلك النوافذ باللغة ويحولون الكلام العادي إلى جواهر ولآلئ ثمينة. إنهم تماماً مثل (بنات الجرجون) في الأساطير الإغريقية، اللاتي يحولن المعاني المجردة إلى أشياء ملموسة، المخاوف تصبح تماثيل حجرية، وكذلك السعادة والأمل واليأس.
الأسطورة الإغريقية تشير، بوضوح، على عملية الخلق الفني، وقد وصف (ميكل انجلو) براعته في نحت التماثيل بقوله: إنني لا أصنع تمثالاً. إنني أنقب عنه في الحجر، إنه هناك وأنا أكشف عنه فقط.
لماذا تحضرني هذه العبارات التي لا أذكر من أي كتاب علقت بذهني؟
هل لأنني بين يدي الشاعر الكبير علي عبدالرحمن جحاف.. أحاول بفقر ما عندي الحضور في رباطه المغسول بالسحر والأنوار والجمال..؟
علي عبدالرحمن جحاف، الشاعر الذي تحول إلى رمز من رموز الوجدان الشعبي عند اليمنيين الذين ربما عرفوا شعره الذي شاع وانتشر رغم إقلال صاحبه من الظهور وبُعده عن المنابر وزهده في الأضواء، ولعل جل محبي شعر جحاف الكثر لاسيما من الأجيال الجديدة عرفوا شاعرنا منذ أن أطلق الفنان الكبير (أيوب طارش عبسي) أغنيته الشهيرة (طاير امغرب) في أول الثمانينيات، وهي الأغنية التي لم تكن إلا قطرة من سحابته المترعة بالفن والحساسية والإبداع الجديد.
إنني بإزاء تقديم جحاف من خلال هذا الديوان ((فل نيسان)) أشعر بالحاجة للاعتراف بأنه من الصعب الإحاطة بالديوان والتوقف أمام القصائد، كما جرت العادة، كما من الصعب تعريف المعرَّف، فالشعر وحده رسالة الشاعر إلى قلب ووجدان القارئ، وأجدني في البداية أتوقف متأملاً تسعاً وثلاثين مقطوعة شعرية كتبها الشاعر قبل سنوات.. تشكل تجربة خاصة ونادرة في الشعر العربي المعاصر.. تجربة تنتمي بفرادتها لعصر الصورة الذي نعيش فيه، حيث يشكل الشاعر علي عبدالرحمن جحاف طرفاً في علاقة عاطفية افتراضية طرفها الآخر إحدى مذيعات الـ(mbc) تنسحب منها صورة المرأة جسداً وروحاً وحضوراً، لتختزل في إطلالة تلك المذيعة... تجربة ينميها الشاعر بخياله واستبطانه للحالات، والمواقف التي تتخلق في لغة شعرية تسجيلية تتنوع شكلاً (فصيح/ شعبي) ولا تختلف مضموناً وتبدو تحدياً أبدياً للموت.. فهي مفردات الحياة الجميلة التي يصر أن يحياها ولو من خلال العالم الأثيري الافتراضي في الوهم. وهي آمالٌ تبرق. فتسوق سحباً قاتمة تمطر دموعاً في قلب الشاعر وقلوبنا:
يلومونني في رانيا ليت أنهم
يحسون ما بي حين تذكر رانيا
فما بي إحساسٌ ولا لي قدرةٌ
على فهم ما يحكي الجليسُ أماميا
فقد سرحت بي مقلتاها لعالم
من الحسن أبدى لي الجنان كما هيا
فأجمل ما تحوي الفراديسُ من جنى
وأروع ما ضمت زهور الأكاسيا
تصور لي فيما تجن لحاظها
وفي قسمات الحسن منها بداليا
كل متاعب الحياة، وخيبات العمر، وإجهاد المرض، وكل ما في هذا العالم الكبير من قسوة وحقد.. وفداحة، وقفت خاشعة أمام سطوة قلبه الرقيق، وأحاسيسه الدفاقة، وحبه الكبير الذي اختار أن يمنحه دون مقابل لمن لا تعرف عنه شيئاً، والتي تصور أنه ليس بعدها ولا قبلها؛ لأن المعاني التي أثارتها في نفسه كانت نائمة، أو كانت مجهولة الملامح، حتى جاءت هي فأثارت بعضهُ على بعضه الآخر، وعرف بها ما يدور في أعماقه.
أهي طبيعة الإنسان الذي لا يبحث عن الأشياء حيث يجب أن يجدها، ولكن يبحث عنها حيث يمكنه ذلك؟ حتى لو لم يكن هناك أملٌ في أن يجدها؟
ثمة خلفية لابد من الإتيان عليها. فمنها نعرف السر الكامن وراء جنون جحاف (برانيا برغوث).
في عام 1990م قامت الوحدة اليمنية والتأم الجسد المشطور الذي رفض الشاعر تشطيره منذ نهاية الستينيات قبل قيام الوحدة بأكثر من عشرين عاماً. في قصيدة بعنوان: (الوحدة).. وبقيام الوحدة فرح الشاعر مثله مثل سائر أبناء الوطن.. وأنشد بهذه المناسبة قصيدته الطويلة (السفر إلى مرافئ الحب). ومع قيام الوحدة جاءت التعددية، وخرجت إلى الناس عشرات المطبوعات حزبية وأهلية.. ثم تفجرت الأزمة السياسية، وأثناء تداعياتها أصدر رجل الأعمال المعروف (عبد الوهاب الشهاري)، رحمه الله، صحيفة ((الكشكول)) وكانت أول صحيفة أدبية تصدر في اليمن، واستطاع رئيس تحريرها الشاعر علي عبدالرحمن جحاف، ومجموعة المحررين الذين كانوا معه، أن يجذبوا إليها عشرات الأقلام، من كل الأجيال ومن مختلف الاتجاهات الأدبية والفكرية، وكان يصدر كل عدد من أعدادها بقصيدة من قصائده الطريفة التي يمتزج فيها الجد بالهزل والحقيقة بالخرافة.. وعندما ارتفعت وتيرة الأزمة السياسية بكل ما صاحبها من تصرفات، تحول هزل جحاف إلى جدّ خالص. فكتب قصيدته الغريبة بألفاظها وقافيتها:
(ومن زرع يهناه كمّاجهش) وهي معارضة لقصيدة الشاعر علي ناصر القردعي المشهورة التي وجهها إلى خصمه (ابن جرعون) ومطلعها:
يقول أخو مفطم بديت الغبش
متعلّي اخشام الجناشي
وتزداد حدّةُ الأزمة السياسية، فيكتب قصيدته البديعة (مهلنيش)، وفيها يعلن بشجاعة سخريته من كل ما يحدث، ويعلن أنه ضد تلك المهزلة، وأنه ينحاز إلى المواطن البسيط الذي لا يرضى به بديلاً ينتمي إليه أو يتغنى به. فالبسطاء وحدهم الذين يشاركونه الخوف على الوطن والشقاء والحيرة إزاء ما يجري فيه:
ما ناش قفا من قافدوا الصياني
وما رسوا اللعبه بشكل ثاني
وغلوّا الأسعار قصد عاني
من منّهم شِقضي على رهاني
أنا المساكين جزء من كياني
ما رضاش عمري باختلاس الارواح
وبين عشية وضحاها، حفظتها المئات والآلاف، ورددتها المجالس والمقايل في كل أنحاء اليمن، وعارضها شعراء كثيرون، فقد كانت إدانة صارخة للتقاسم والتصفيات الحاقدة التي طالت رؤوساً كثيرة.. كما كانت فاضحة للغنى الفاحش المسروق من عرق الناس ومعاناتهم، وصيحةً في وجه التمترس القبلي والمناطقي والتعصب الديني والسياسي.
ويبدو أن القصيدة كان لها دور، بشكل أو آخر، في قرار إيقاف الصحيفة الذي ما زال غامضاً حتى اليوم.. ودخل جحاف أكثر فأكثر في دوّامة الأزمة يعاني تبعات الأزمة السياسية التي تعصف بوطنه معاناة العاجز الذي لا حول له ولا قوة، شأنه شأن الملايين من أبناء الشعب الذين اختار الانحياز إلى فقرهم ومعاناتهم وصبرهم. ويعاني في الوقت نفسه تبعات الحياة وتبعات الأزمة القلبية والأمراض المختلفة التي تستوطن جسده الضئيل. وجاءت حرب عام 1994م فكانت الطامة الكبرى.. واحتجاجاً على ما حدث انكفأ جحاف على نفسه ولزم بيته كئيباً حزيناً ومتألماً.
وفي تلك الأثناء بدأت المحطات الفضائية في الانتشار، وكان منها تلك المحطة اللندنية التي كانت تطل منها المذيعة الجميلة (رانيا برغوث) التي وجد جحاف في وهم حبها مهرباً من كل ما يحدث ويجري. وأصبح مشدوداً إليها من أهداب عينيه.. ومن طبلة أذنيه. ومن حبال صوته. وشرايين قلبه. ولعله كان يرى فيها المرأة المثال بالنسبة للشاعر الفنان الذي يصعب تفسير اندفاعه، ولكننا هنا نقارب ونتأول، فهو يرى الوجه الحلو، والعيون الجميلة، والصوت البديع، ويرى الشباب المقبل على الحياة.. فيظل مجذوباً إلى الشاشة يرتجف كما ترتجف إبرة البوصلة وهي تتجه نحو القطب الشمالي، أو كما ترتجفُ أوراق الشجر في مهب مناهل الغيوث والسيول:
ما يدكي إلا بجنب الدوش عله يشوف
من شل حسه بطلعه جلَّقيه وفن
وآمن جحاف – المشغوف بطبيعته بحب الحسان - بحقيقة مؤداها أنه: ليس أصدق من المحبين، وليس أكذب من السياسين. وصارت لحظة إطلالة "رانيا" تساوي الأبدية والخلود، وفي كل مرةٍ يراها تكون نظراته إليها صلوات لله يشكره على أن خلق واحدة بهذا الجمال..
وبدأت مقطوعاته تتوالى فيها. وكل مقطوعة تجد موضوعها، فمرة يشرح حاله معها وولعه بها، ومرة يشكو منها، وثالثة يرد على لائميه وعذاله فيها.. ورابعة يفخر بتفوقه على منافسيه في حبها، وخامسة يحتفل بإطلالتها. حتى أنه ليسأل صديقاً له عاد من سفر إلى لبنان إن كانت الأرض التي أنجبتها مثل كل الأرض، أم تختلف اختلاف (رانيا) عن جميع النساء، وهكذا حتى نصل إلى قصيدة الوداع عندما تتزوج (رانيا برغوث) فيكتب لها مهنئاً ويعلن أنه قرر الابتعاد عنها لتخلص لحياتها الجديدة.
وهكذا مشى جحاف في طابور طويل يضم أولئك الذين حيروا الإنسانية فوصفت عشقهم بالجنون، وليس ذلك إلا رد فعل على الإنسانية كلها لأنهم نظروا إليها فلم يجدوها. الإنسانية التي رأينا كيف توحشت في حرب الخليج.. ثم رأينا كيف توحشت مرة أخرى حين نهش الإخوة لحمهم في حرب اليمن عام 1994م.. فكان لسان حال جحاف وأمثاله: لقد احتقرنا كل الناس إلا من نُحب، وأعدمنا كل الوجود إلا وجود من نحب.. إن الإنسانية لم تعرف عاشقاً مجرماً ولا محباً قاتلاً. إن المحبين يقتلون أنفسهم، ولا يقتلون غيرهم.. إننا ضحايا.. فنحن قتلانا.. نحن عبّاد أنفسنا، لأن أنفسنا هي الله.. ولأن الله هو الحب.
عشرات المعاني الملتاعة تزخر بها (الروينيات) كما تزخر بتناصات كثيرة مع العشاق القدامى.. (مجنون بني عامر وأمثاله). وقد لقيت هذه القصائد في تلك الفترة أصداء هائلة ترددت في نفوس شعراء كبار من أمثال الشاعر الكبير (عباس الديلمي) وقصيدته (لفّ عقلي لفوف) موجودة في الديوان، ومثله الشاعر الشعبي (حسين زلخفان)، وكذلك الشاعر الكبير (حسن عبدالله الشرفي)، الذي ستُنشر قصيدته قريباً في ديوان جديد له.
غير أنني على إعجابي البالغ بما كتبه جحاف في هذا الموضوع من قصائد فصيحة والتي نجح بأسلوبه الفكه واتكائه على التكثيف والمفارقة أن يكسر جمود قالبها التقليدي.. ما أن أصل في استعراضي لها إلى القصائد الغنائية الشعبية، وإلى قصيدتيه اللتين ردّ بهما على (زلخفان) و(الديلمي) حتى أتمنى لو أن جحاف كتب كل القصائد السابقة باللهجة الشعبية.
حيث يجد القارئ نفسه في هذا اللون وجهاً لوجه أمام شاعرية جحاف المتميزة. يراها شيئاً واضحاً.. أو معنى واضحاً.. ويستسلم القارئ كما استسلم جحاف قبله لعذوبة الشعر وعذابه..
إن جحاف في حالة كتابته للقصيدة الشعبية يكون فائضاً وجدانياً يلامس بساطة المفردة الذائعة معمقاً معناها، مجدداً صورتها وصيرورتها ليكتب لها بذلك صك الذيوع والخلود والصيرورة التي هي امتزاج روح الشاعر باللغة، بالتأمل بالثقافة الواسعة على امتداد التجربة الإنسانية.. وبقدرة قادر تدخل مفردات الحياة اليومية، وتدخل الطبيعة، وخفة الظل المحببة، ويجلس هو بهدوء وصوفية وعشق ليكتبها فناً يرتفع به فوق كل تفاهات الحياة.. ومتاعب الإنسان:
يا غصن عالي مورِّق في روابيه ينوف
لو كنت تدري بما بي ما هنيت املبنْ
ادلهف امعمر وادهوف حياتي دهوف
وآعيش وانا الزكين العقل عيشه مجن
جحفت جحاف واسيد امغواني جحوف
سلبت فكره هوى صنعا ونسمة عدن
ولا أحتاج لأن أشير للقارئ إلى نكهة التعابير الشعبية وتقديمها البارع للدلالة ثرية وسهلة ودفّاقة. فيها الكثير من الشجن والعذاب والتمرد أيضاً.. سواءً نظرت إلى هذا التمرد من منظور اجتماعي أو شعري. فأنت شعرياً واجدٌ تلك الطهارة والفطرة الإبداعية التي لا يكتب جحاف من خلالها إلا نفسه..!
أما حين ينتقل القارئ إلى قصائد الديوان الأخرى.. فإنه يكون على موعد مع وجوهٍ أخرى من إبداع هذا الشاعر، ففي محور القصائد الفكاهية سنقرأ لوناً لعله غائب عن شعراء اليوم عرباً ويمنيين، لكنه حاضر في دواوين الشعراء العرب، وكتب التراث والمختارات، وله مكانه في الشعر اليمني الحميني والفصيح، ولذا فليس من المبالغة في شيء القول بأن الشاعر علي عبدالرحمن جحاف يقتحم متفرداً هذا اللون الشعري في عصر الصحافة، والكتابات الساخرة، والكاركتير، إنه يقدم شعراً جريئاً يعبر عن حسّ ساخر، وعن نزعات تصور الحياة بما فيها من جد، ولهو، ومرارات، وفيها شقاوة وخفّة روح لا تخلو من لمحات ذكية ومن حس فكاهي رفيع.. ثم إن العفة الحقيقية والشعور الديني الزاهد في الملذات، والمتحرج من الحرام، هي ما ينهي به هذا النوع من القصائد دائماً.. إلا أن ما يدهشك أنت الذي تعرف في جحاف تقواه وزهده ومحافظته.. وعشرات القصائد
* فصل من كتاب "قمر في الظل" للكاتب والناقد اليمني/ علوان الجيلاني
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها