هل تصنع الحرب توجهاً جديداً للفن في اليمن؟
اشتهرت مستعمرة عدن البريطانية بطبع الأسطوانات الغنائية، ونشرت ثلاث أسطوانات لمطربات من المملكة المتوكلية اليمنية بأسماء مستعارة "فاطمة الصنعانية، والمطربة المحجبة، وبنت البلد". تزامناً مع ظهور هذه الأسطوانات تم تشديد التفتيش على الحدود، للحد من ظاهرة هروب الفتيات إلى مستعمرة عدن، اكتشف خلالها الحرس الحدودي للمملكة سبع فتيات كن يختبئن في صناديق داخل سيارات نقل البضائع من صنعاء على دفعتين. واستطعن الإفلات عن طريق رشوة قدمها السائق إلى الحراس. مقتطف من كتاب "الثقافة والثورة في اليمن" لعبدالله البردوني.
طغى المشهد السياسي لعقود من الزمن على المشهد الثقافي اليمني الشحيح كماً ونوعاً، بعد تأسيس الجمهورية العربية اليمنية بعد عام 1962، حينها ألغيت التفسيرات الدينية والاجتماعية التي استخدمتها الحكومة المتوكلية لقمع أي تجديد أو ممارسة العديد من الفنون.
وظهرت الفنون الحديثة في تلك الفترة كطفرة، وتم تجديد الأغاني التراثية من خلال إدخال الآلات الحديثة الغربية والشرقية إليها، وظهرت حركة فنية تشكيلية في البلد. لكن المشهد الثقافي بقي تحت سيطرة ديكتاتورية الجمهورية في فترات متعاقبة، فكان على أي نوع من الفنون أن يمر أمام أعين الدولة قبل الظهور إلى العلن. وكانت الأجهزة الأمنية تحاسب أي فنان تحمل أعماله أي معارضة سياسية، ومورست هذه الوصاية من قبل حكومة اليمن الشمالي العسكري- القبلي، واليمن الجنوبي الماركسي.
بعد إعلان الوحدة عام 1990، اعتقد كثير من اليمنيين أن هذه بداية ديمقراطية حقيقية في البلد، لكنها أجهضت بعد حرب عام 1994 ليستولي نظام الجمهورية العربية على مقاليد الحكم، ويفسح المجال لشريك جديد، هو التيار الديني المتطرف المعادي للفنون، ما جعل تعليم الفنون ترفًا للطبقات المثقفة أو الغنية، أو التي تمارس الفن كمهنة. وعاد الرفض المجتمعي للفنون، وألغي تعليم الموسيقى بشكل كامل من المدارس الحكومية.
مع بدء ثورة الانترنت، التي دخلت اليمن عام 1996، اطلعت الفئة الشابة خصوصاً على الفن ومدارسه، وساعدهم وجود فيديوهات تعليمية مجانية. بالإضافة إلى أن الأزمات السياسية التي واجهتها السلطة تطورت بسبب سوء الإدارة، والسخط الشعبي، فظهرت الثورات والمعارضة في اليمن، وبدأت مرحلة جديدة، هي مرحلة الكسر النسبي لممارسات المجتمع التي فرضتها السلطة على الحياة العامة. خلال هذه الفترة ظهرت الفئات الفنية، وخرجت للنور بعد أن انحصرت لفترة طويلة في المعارض الحكومية والمسابقات المحلية والدولية.
ثم تطورت الأحداث السياسية في اليمن، وبدأت الحرب في مارس 2015 فشهد المشهد الثقافي الناشئ انحداراً نتيجة لاشتداد الحرب ووصولها إلى المدن الرئيسية وهي صنعاء، عدن، تعز، الحُديدة، أو سيطرة قوى سلفية كالقاعدة على مدن أخرى مثل المكلا.
وإذا كان تدهور الثقافة والفنون هو نتاج طغيان السياسة على الحياة العامة، فإن الأزمة الأخيرة لن تؤثر على المستقبل، لأن عصر احتكار السلطة للثقافة والفنون شارف الانتهاء، وبدأ عصر جديد اكتسب خلاله الفنان مفردات جديدة. وبرغم تدهور المشهد على الأرض نتيجة لصعوبة الحياة وعدم توفر أساسياتها، فإن الفنان يكتسب نمط حياة جديداً، يزيد من نضجه ويغير نظرته القديمة إلى محيطه. ألم تتطور كوارث الحرب والرسوم السوداء لفرانثيسكو غويا بعد حروب داخلية وخارجية؟ ألم تظهر غورنيكا لبيكاسو أيام الحرب الأهلية الإسبانية؟
لم تكن الحرب إذاً عائقاً أمام استمرار الحياة في اليمن، فكما تم العثور على وسائل جديدة لإنتاج الطاقة الكهربائية البديلة، وتبريد المياه باستخدام الأواني الفخارية في الصيف، والطباخة باستخدام الحطب، عاد الفن للظهور بخجل مستخدماً أدوات بسيطة.
من التجارب التي تأثرت بالحرب مباشرة، مجموعة نبيل قاسم "لحظات خوف" التي عُرضت في مؤسسة بيسمنت Basement، وهي أثبتت أن الإمكانيات المادية لا تشكل عائقاً للإنتاج. استخدم نبيل أسلوب الاسكيتش في الرسم على ورق A4 الخاص بالطباعة مع مواد تلوينية متنوعة موجودة في حقيبته أو في منزله، لينتج نحو 200 رسمة تتكون من خطوط عشوائية متقاطعة، يملؤها بالألوان، لتشكل وجوهاً وكائنات وأجساماً مختلفة ومتداخلة. ويستخدم نبيل الظلال التي ترعبه أحياناً، كمادة للرسم ليحسن علاقته بها.
وفي الفترة نفسها استخدمت نورا العبسي بقايا القهوة، للرسم على أوراق الطباعة بأحجام مختلفة، للتخفيف من كلفة أدوات الرسم، وهي بالتأكيد أضعاف ثمن بقايا القهوة.
كما نفذ رحمان طه حكايته الفوتوغرافية "الشاهي في الطريق"، التي تجسد مراحل تجهيز الشاي ووصوله إلى الزبائن في شارع المطاعم/العدانية المشهور بالشاي. ويقول رحمان: "أنتجت عملي في فترة الحرب، لم يكن له علاقة مباشرة بها، ووجدت إثباتاً بأن الحياة مستمرة".
أثبت هؤلاء الفنانون أن الحرب يمكن أن تصنع توجهاً جديداً للفن في اليمن. فالوضع الجديد للحياة يستدعي قواعد جديدة للعمل، حتى وإن انتهت هذه الحرب، فإن عودة الحياة السابقة لن تغير أبداً من وقع التجربة، ومن أثرها في النفوس. لكن هل تستطيع البيئة اليمنية التحرر من نظرتها المحتقرة للفن؟ تم كسر جزء كبير من رقابة السلطة على العمل الفني، فهل تُكسر الرقابة المجتمعية بالطريقة نفسها؟
بوادر كثيرة تشير إلى أن الظواهر المعادية للفنون في انحسار، والدليل أن التيارات المتطرفة بدأت تستخدم الفن على استحياء.