جدل الحلم والفعل في ثورة فبراير
ما تزال العاطفة جياشة ولها نسب متين مع ثورة فبراير, خصوصاً عند الجيل الشاب الذي تصدر هذا الحدث الفذ, مما يحول دون تقييمها ونقدها بموضوعية بعد مرور خمسة أعوام على اندلاعها, فكل محاولة نقدية ما إن تبدأ عملها إلا وتقع في أسر هذه العاطفة.
وكل ما صدر حتى الآن, شذرات نقدية لم تتعرض لسيرة فبراير كلها.
تمايزت ثورة الحادي عشر من فبراير 2011 عن كل محاولات التغيير الشعبية بشعبيتها الجارفة التي أكسبتها سمة الإجماع, وبذلك الخروج الجريء الذي لم يكن يتوقعه أكثر السياسيين القدامى شجاعة وخروجاً عن المألوف.
فنظام علي عبدالله صالح التسلطي كان قد أقام من الديمقراطية الصورية سداً في وجه أي انتفاضة شعبية وحجة ضدها حتى ظن الجميع أن الثورات الشعبية صارت حديثاً من الماضي.
لكن "فبراير" انبعثت من رماد التطلعات والأحلام الشعبية المنهارة ويأس المجتمع من قدرة السياسة على إصلاح النظام أو حتى ترشيده.
ولمًا وثب الناس إلى ساحات الاحتجاج فتناغمت أصوات الملايين في نحو 18 ساحة, في صيحة "الشعب يريد إسقاط النظام" وصارت الثورة حقيقة, حوصرت بين ثلاثة اتجاهات أبقت على شكليتها الثورية المكتملة لكنها أعاقت نتائجها التي تقاس بها فاعلية الثورات من عدمها.
مثل الاتجاه الأول قادة الأحزاب السياسية المعارضة لنظام صالح, الذين كانوا أنفقوا أعواماً محاولين إقناعه بإدخال إصلاحات سياسية, ومن ثمً فقد وجدوا في الثورة تحركاً ضاغطاً -من حيث لم يحتسبوا – لفرض عملية إصلاح سياسي كبرى ومحسًنة ولذا لم يكن فارقاً لديهم أن تثمر الثورة نتائج ثورية جذرية وحاسمة أو أن تقتصر على إصلاح ما تراكم من السياسات.
والاتجاه الثاني وفد على الثورة من داخل نظام صالح نفسه لكن بحلة ثورية, إذ بعدما تضخمت مصالح النظام على نحو متسارع بدأ التناقض بين دوائره وقفز به صالح إلى الأمام حين صرف عنايته إلى مشروعه الشخصي الذي أخذت دائرته تضيق باطراد إلى حد لم تنغلق فيه سوى على أسرته الصغيرة.
كان اللواء علي محسن صالح وزعيم قبائل حاشد صادق الأحمر والواعظ المتشدد عبدالمجيد الزنداني وجوهاً معلمية لدوائر النظام المنشقة بعدما قضت سيرتها العامة في تثبيته والسهر على مصالحه.
وبعد الانشقاق, تركز هم زعماء تلك الدوائر الثلاث الملتحقة بالثورة في إطاحة شخص علي صالح من الحكم لا نظامه أو سياساته, كي يبرهنوا له أن ثمن التنكر لهم مكلف.
أما الاتجاه الثالث فشكل إطاراً لغالبية جمهور الثورة الذي حلم بثورة تجترح تغييراً جذرياً وتحدث قطيعة مع النظام القديم, وبذل في سبيل فكرته دماءً ومهجاً كثيرة عزيزة غير أنه لم يمتلك التصور الكفيل بتجذير ثورته.
تشكل معظم جمهور هذا الاتجاه من الشبان الذين كانوا غاضبين على كل اللاعبين في الساحة: النظام والأحزاب والمنشقين من العسكر وشيوخ القبيلة.
بيد أن ذلك الغضب انقلب إلى عنصر مؤذٍ بحق هؤلاء إلى حد أن صرفهم عن التفكير في وصفة ملائمة لإسقاط النظام.
ففي الوقت الذي أراح أنصار اتجاه الإصلاح السياسي أنفسهم من عناء تدبر الطريقة المناسبة لإطاحة النظام وحصر المنشقون عن النظام اهتمامهم في إسقاط صالح فقط, لم يملك أنصار الاتجاه الثورى الجذري أدنى إجابة عن السؤال الخاص بكيفية إسقاط النظام.
وفي حين كان العمل التنظيمي الثوري عند اللجان التنظيمية المشكلة من الأحزاب بهيمنة من حزب الإصلاح ينصرف إلى القدرة على ضبط إيقاع الساحات والتحكم في قرارها فقط, كان أنصار الاتجاه الثوري _ويا للسخرية_ يرفضون أي شكل من أشكال التنظيم ويرون فيه مؤامرة ووصاية من الماضي على المستقبل.
بعد أسابيع من انطلاق الثورة سرت حمى "الزحف نحو القصر" الرئاسي بين جمهور الساحات, خصوصاً أنصار الاتجاه الثوري.
فلقد تمكن التصور التجريدي القائل بسقوط النظام فور وصول المحتجين إلى القصر الرئاسي من تفكير الجمهور الذي كان متلهفاً لرؤية أي نتيجة فورية لتحركه غير المسبوق.
شكل هذا التصور على بساطته المفرطة الاجتهاد الوحيد الذي خلص إليه الثوريون, ومع ذلك لم يعللوا كيف أن مجرد وصول الحشود المحتجة إلى القصر الرئاسي سيسقط النظام الممسك بكل مفاتيح القوة واللعبة.
وإذا كان المنادون بـ"الزحف" ما يزالون نادمين على عدم تطبيق فكرتهم حينذاك ففي وسعهم الاستنباط من مؤامرات صالح ضد نظام ما بعد 2011 حتى إسقاطه أن السلطة لا يمكن اختزالها دائماً إلى حاكم يقيم في القصر.
من الطريف حقاً أن ممثلي الإصلاح السياسي والمنشقين التقطوا نغمة الزحف إلى القصر واستهلكوها بتلك الطقوس الساخرة التي كانت تلي صلوات الجمعة وتشبه تدريبات فرقة كشافة مدرسية, ولعل ذلك هو الفصل الترفيهي الوحيد بين فصول الدم والتضحيات والروح الجديدة التي كانت تخفق تحت شمس ربيع 2011 فكدنا نحسد أنفسنا عليها.
لقد مثلت الثورة في البداية فكرة ساحرة اجتذبت إلى ساحاتها المكدودين الصادقين والمعارضين وشركاء النظام المنشقين عنه لتوهم, لكن حين برز السؤال عن فعلها المنتظر بدت للجميع كجواد جامح, لا يملك الثوريون العدة والتأهيل لامتطائه ولا يرغب أنصار الإصلاح السياسي والمنشقون اعتلاء صهوته كي لا يكر بهم إلى قلب معركة يريدونها هم مناوشة فحسب, ولأجل ذلك حبسه كل هؤلاء داخل الساحات حتى تجود الأقدار بحل.
ومن ثغرات الثورة أنها لم تصنع قادة جدداً, ففي نهاية المطاف كان السياسيون القدامى هم من قرر خاتمتها المنظورة عبر اتفاق التسوية الخليجية, أما القادة الشبان الذين بدا في أول الأمر أنهم أحد ثمار الثورة فتبين لاحقاً أنهم مجرد لوازم حالة من الصخب الإعلامي الذي أثارته محطات التلفزة على هامش الثورة.
وكشفت الامتحانات والأحداث اللاحقة أن هؤلاء القادة الشبان, وفق تعريف محطات التلفزة, كانوا صناعة دعائية بكل ما في الدعاية من تضليل وبهرجة، سرعان ما انقشع طلاؤها لدى ابتلاء الواقع السياسي والاجتماعي الكامن خارج الساحات.
من المؤسف القول إن العناصر التي أبزغت نجم هؤلاء كانت مغشوشة, مع استثناءات جديرة انكفأ أصحابها أو أصابهم الإحباط.
وزاد من خدش صورة قادة الثورة الشبان, قبول غالبيتهم بلعب مناورة تخدم المسار الذي اختطه دعاة الإصلاح السياسي.
ففي الوقت الذي دل سلوكهم داخل الساحات على تحليهم بروحية السياسيين القدامى بكل ما فيها من إصلاحية وتحاذق وادعاء التعقل في استيعاب مخاطر الواقع, حافظوا على ثورية الكلمات والتصريحات المتلفزة.
تلك المناورة أظهرتهم مزايدين ثوريين مضحكين.
وثورة فبراير بماهي احتجاج سلمي أبى حشده العودة إلى المنازل قبل أن يزيح رئيس النظام من كرسي الحكم قد حققت مرامها بطريقة ما, وذلك مبلغها من الفعل وأقصى ما يمكن لاحتجاج سلمي أن ينجزه في مواجهة محكومة بشروط الواقع اليمني وخصائصه وظروفه في 2011.
بتعبير آخر واعتراضي, جردت ثورة فبراير علي صالح من شرعية الحكم حين أرغمته على التنحي لكنها أبقت في يده أدوات الحكم, وهنا مكمن الجدل حول هذا الحدث الكبير.
فالحكم على "فبراير" بما حققته خلال مدة مكوث المحتجين داخل الساحات سيكون جائراً وناقصاً, ذلك أن لهذه الثورة حقبتها وستظل تؤدي عملها خلال هذه الحقبة بوسائل وأساليب مختلفة؛ بدءاً بما أنضجت من صراع المصالح الخاصة بدوائر النظام القديم وما استدعت من عوامل كبرى إلى ساح ذلك الصراع.
وها نحن نشهد كيف قاد تجريد صالح من شرعية القرار إلى تجريده من أدوات السلطة؛ فالمقاتلات الحربية تحيل ترسانة سلاحه الضخمة إلى خردة محترقة منذ 11 شهراً ومقار الشركات التي تدر جزءاً من ثروته صارت ركاماً, فضلاً عن أن أرصدته المودعة في المصارف العالمية تحت طائلة العقوبات الأممية.
غير أن القول باقتراب تداعيات ثورة فبراير من تدمير قوة صالح لا يكفي للحكم بأن جذوتها ما تزال مشتعلة, إذ تظل القضيتين الاجتماعية والديمقراطية اختبارها الحاسم.
وبين هذا وذاك, لا مناص من القول إن جيلاً طرياً قد أضاف بصمته الباهرة على صفحات التاريخ اليمني وإن مفاعيل ثورته السلمية ما تزال تترى.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها