الصراع من أجل البقاء..!!..
يعاني اليمن اليوم من مشكلات سياسية واقتصادية عديدة، تظللها معضلة بنيوية أكبر. ومن هذه المشكلات صراع الحكومة اليمنية مع مورثات النظام السابق من فساد مالي وادراي واختلافات بنيوية وهيكلية وشراء ولاءات وضياع تنمية وووو..ووايضا بؤر الصراع كاالحركة الحوثية، والحركة الجنوبية، ناهيك عن اتخاذ "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" من اليمن قاعدة إمداد واستعداد. وزد على ذلك حالات التخريب في قطاعات خدمية رافدة واساسية في قطاع الكهرباء النفط الذي لم يعد يتجاوز الآن حدود الاستهلاك المحلي إلا بقليل..
فإذا وضعنا هذه الأزمات الداخلية في إطار أوسع، فسنجد أن اليمن يقع في القلب من مجال جغرافي ملتهب يمتد من الصومال إلى أفغانستان، ومن السهل أن تسريَ عدوى الفوضى العسكرية السائدة في هذين البلدين إلى اليمن. لكنَّ ما يجعل هذه الأزمات مركبةَوعديمة الجدوى في الحل هو المعضلة البنيوية العميقة المتمثلة في حكم عسكري وراثي حكم اليمن بعقلية تسلطية فضوية لازالت جذورها متأصلة في كل مرفق ومؤسسة.
الحوثية بين الفكر والارتهان لقوى خارجية
وبالنظر للأزمة مع الحوثيين، فهي –حتى الآن- أقل أزمات اليمن عمقا، وأسهلها حلا، رغم كل التهويلات الطائفية حولها. وهي مثال على فشل الدول العربية المعاصرة في إدارة تراكم الهوية وتزاحمها داخل مجتمعاتها. فالحركة الحوثية في جوهرها ردة فعل ثقافية واجتماعية، سببها الخوف على الهوية الزيدية من الاندثار,,
فقد تراجعت الهوية الزيدية –بحكم تلبُّس الحكم الإمامي البائد بها- أمام الخطاب القومي الثوري الآتي من مصر في الستينيات والدول العربية الاخرى، ثم بدأت تختنق أمام الثقافة السلفية القادمة من السعودية منذ الثمانينيات. فليست الحركة الحوثية في صراع سياسي مع النظام الحاكم في اليمن، ولا الزيدية في صراع اعتقادي مع السنة، بل إن الزيدية بمنهجها التوفيقي بين التسنن والتشيع قد تعين اليوم على التخفيف من غلو الانقسام بين السنة السلفية والشيعة الإمامية.
والمتتبع لأدبيات الحوثيين يدرك أن مطالبهم لم تكن سياسية، بل كانت قوة دينية واجتماعية تقليدية للحفاظ على مواريث بدأت تجرفها قوة التاريخ، وكان من الممكن أن يحتوي النظام السابق هذه المطالب، فيحافظ على أوقاف ومدارس الزيدية التقليدية، وتعترف بالمذهب الزيدي إلى جانب المذهب الشافعي. لكنها اختارت المتاجرة بخوف السعودية المتوارث من الشيعة، وخوف أميركا من إيران، فألهبت المعركة استمطارا للمال السعودي والدعم الأميركي.
وربما كان صحيحا ما لاحظه أحد الباحثين في "لجنة الأزمات الدولية" من أن الدعم السعودي لعلي عبد الله صالح ضد الحوثيين قد يجعل الدعم الإيراني لهم حقيقة، بعد أن كان مجرد دعاية سياسية من نظام صالح نفسه، وأن الاستمرار في قمع الهوية الزيدية قد يدفع الخائفين على هذه الهوية -من الحوثيين وغيرهم- إلى تناسي خلافهم مع الشيعة الإمامية، والبدء في الإنخراط في حركة الهلال الشيعي النشط..
وبحسب الدكتور محمد الشنقيطي: (هناك ظاهرة جديرة بالتأمل في الثقافة الإسلامية المعاصرة، وهي ميل المدارس الاعتقادية والفقهية الشيعية إلى التقارب والالتئام، وميل المدارس الاعتقادية والفقهية السنية إلى التفكك والإختلاف).
القضية الجنوبية ومعضلة استغلاها..
وبالنظر للقضية الاخرى فهي قضية الجنوب الشائكة ،توتر مع أبناء جنوب اليمن الذين رأوا إخلاف وعود الوحدة، وفقدان كل الإمتيازات التي كانوا يرون انها قد تحققت في عهد الحكم الشمولي من مواطنة متساوية وحقوق مكفولة وتطبيب مجاني وتدريس مجاني وكل مايعتقد ان حكم الماضي قد تضمنه من حرية وعدالة اجتماعية، بغض النظر عن الاخطاء التي رافقت حكم ماقبل90م وهذا دليل آخر على قصر النظر المسيطر على ذهن النظام المسيطر والمنتصر بعد حرب94م، والذي عمق الاستبداد والفساد في اوسع صورها.
فقد أصبح أبناء جنوب اليمن اليوم يحسون بالغبن، ويرون الاستئثار بالسلطة والثروة على حسابهم، رغم أن حقول النفط تقع في المحافظات الجنوبية. بل رأى أبناء الجنوب أراضيهم يتقاسمها أباطرة الحكم من أقارب الرئيس صالح ومقربيه، ورأوا أبناءهم العسكريين يُسرَّحون من الجيش بالآلاف، بسبب الهوس الأمني عند الرئيس علي عبد الله ومحيطه الأسري المسيطر.
كل تلك السلوكيات ولَّدت أصواتا انفصالية الجنوب ، ومع ذلك ليس أغلب أبناء الجنوب قد فقدوا الثقة في الدولة اليمنية الواحدة، وإنما فقدوا الثقة في نظام صالح، وما اتسم به من فساد وانفراد بالقرار في تعاطيه مع عملية التحول من التجزئة إلى الوحدة، وهي عملية تحتاج إلى سعة نفس، وسياسة اكتساب واستيعاب، وتقريب بين أبناء اليمن الذين فرق بينهم الاستعمار عقودا من الزمن مع وجود أيضا من ابناء الجنوب من يرون ان الحل الوحيد هو فك الارتباط واعادة الوضع الى ماقبل 90م.
ولا يزال من الممكن تدارك الأمر وإنقاذ الوحدة، لكن بشرط الاعتراف بالقضية الجنوبية بشقيها واعادة المظالم لأصحابها، فقد وُلدت حركة الاحتجاج الجنوبي مطالَبةً بمطالب بسيطة ذات صبغة اجتماعية، كإعادة المسرحين من الجيش والامن وعدالة توزيع الثروة وتوفير بعض الوظائف لأبناء الجنوب العاطلين. بيد أن النظام حينها رد بالقمع واسترسل القوة حلا، فأرسل مدرعاته لتسحق أولى مظاهرات هؤلاء. وكردة فعل طبيعية لذلك ارتفع ما كان مطالب اجتماعية مقبولة إلى توجهات سياسية انفصالية.
القاعدة المصطنعة ورقة صالح الأخيرة!!
وأما انبعاث تنظيم القاعدة في اليمن خلال السنوات القليلة الماضية، فهو أكثر هذه القضايا تعقيدا، وأخطرها أثرا على المدى البعيد والقريب، لأنها مرتبطة عقائديا مستغلة حالة ظلم المسلمين من قبل القطب الابرز الأميركي في التعامل مع المسلمين، وهي قضية أكبر من اليمن أو أي دولة أخرى.. وأغلب ادبيات القاعدة تشير إلى أن ما تحتاجه للتوسع والتمكن هو شروط ثلاثة: المال والرجال والجبال.
ومن الواضح وجود الرجال والجبال بوفرة يُحسد عليها اليمن. أما الشرط الثالث، وهو المال فلا تحتاج عمليات القاعدة إلى الكثير منه أصلا، ثم إن أمره يهون، بعد اندماج تنظيم القاعدة في كل من اليمن والسعودية مطلع عام 2009 تحت مظلة واحدة هي "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ومحاولات تبني جهات محسوبة على بقايا النظام تحت مسميات وتشكيلات دعم جناح سري بأسم "أنصار الشريعة" في ابين وبعض مناطق الجنوب ويظر ذلك من خلال التسهيلات اللوجستية وتسليم معدات وألوليه كانت في يد قيادات محسوبة على النظام السابق .. لكنَّ القاعدة لم تكن لتتمكن في اليمن هذا التمكن لولا أن اليمن يعيش معضلات بنيوية عميقة فوجدت لها موطئ قدم راسخ من خلال دمج نفسها في الصراعات المحلية داخل دول هشة ذات بنية اجتماعية قبلية..
المسارات المستقبلية المتصورة في اليمن على المدى القريب تنحصر في ثلاثة:
أولها: أستمرار تفلص من تبقى مع (صالح) وخاصة أولئك القادة والمثقفين المدركين لإفلاس الاستمرار معه وخطر بقاءه على اليمن، أو بعض أقاربه ومقربيه الخائفين من دفع ثمن سياساته. فلا أحد يضحي من أجل دكتاتور مدحور بعد أن فقد أمل البقاء، وتتراكم في وجهه التحديات، وترميه الخطوب بسهامها من كل جانب. ورغم إمساك الرئيس السابق (صالح) وذويه ببعض المقاليد العسكرية والأمنية في الحرس والامن المركزي، فإن مسار التغيير قد يصل الى مايعتبره قلاع حصينة ويظل أكثر المسارات ورودا من الناحية العملية.
وثاني المسارات أن تضغط الدول الغربية الحريصة على مصالحها أولا واليمن ثانيا على (صالح) في سبيل خروجه من اليمن، وصولا الى مقاعدته سياسيا واجتماعيا ولو لحين. والذي قد يظهر بشكل تنازلات للحراك الجنوبي وللحوثيين، وإقامة انتخابات برلمانية ومحلية نزيهة نسبيا، وإشراك بعض القوى في في الحكومة، كنوع من أنواع التعايش الديمقراطي..
وثالث المسارات أن يستمر التفلت الامني وهدم كل ونسف كل نجاحات حكومة الوفاق بغرض إيجاد حنين لحقبة (صالح) بعد ان جعل اليمنيين بلا ماء ولا كهرباء واسثمار كل الاختلال لتصب في خانة الماضي على حساب الحاضر وقد يقود هذا الانسداد والفساد المصطنع إلى صراع عسكري قبلي حزبي على شاكلة الصراع الدموي بين الرفاق الاشتراكيين الذي أحال مدينة عدن أطلالا في الثمانينيات. ثم يتحول هذا الصراع على السلطة إلى حرب أهلية مدمرة، تتفرع إلى حروب داخلية صغيرة، قبَلية ومناطقية ومذهبية ـ لاقدر الله ـ وهو الامر الذي تتحاشاه السعودية ودول الخليج والمجتمع الغربي، ويبقى الأمل في أن تفلح الحكمة اليمانية في تفادي هذا المسار المعتم.
وتستطيع دول الخليج الإسهام الإيجابي في خروج اليمن من مأزقه، من خلال المدد الاقتصادي ذي البعد الاجتماعي، وتشجيع المصالحة الوطنية والإصلاح الداخلي على المدى القريب، ثم التخطيط لدمج اليمن في مجلس التعاون الخليجي على المدى البعيد، ابتداء من رفع التأشيرات عن مواطني اليمن للعمل والإقامة في دول الخليج.
كما يبدو أن البداية الصحيحة للحل هي التحرر من هذا "المستعمر الوطني"، وهو الحكم العسكري المتصلب الضارب بأطنابه على اليمن منذ ثلاثة عقود. فالصراع الأكبر في اليمن اليوم ليس صراع التجزئة بين شمال وجنوب، أو صراع الطائفية بين سنة وزيدية، أو صراع القوة بين القاعدة وأميركا.. وإنما هو صراع البقاء بين اليمن وبقايا نظام العائلة وأركان حكمه البائد.