انتقال ولكن بقيادة مثقلة بالثأر والهرب !!
واقع الحال يبدو انه أكبر من ان تفهمه وتستوعبه مدارك وعقول من يتصدروا المشهد ، ويعول عليهم ادارة عملية انتقالية بهذا المستوى والاهمية .تذكروا جيدا اننا مررنا بمثل هذه اللحظة التاريخية الفارقة ؛ لكننا مع ذلك لم نحسن التقاطها واستغلالها مثلما ينبغي ،إذ لا يكفي هنا ان يكون لديك مجتمعا متحفزا ومتوثبا لأي عملية سياسية هدفها الانتقال او التغيير والاصلاح لمنظومة عتيدة وبالية ، فالمهم في هذه الحالة يكمن بقدرة الاداة السياسية على فهم وادراك طبيعة المهمة المنوطة بها ، وابتداع السبل الناجعة لتحقيقها .لو أخذنا مثلا التوحد السياسي بين الدولتين عام 90م وما تلاه من ازمة وحرب كارثية ومشكلات سياسية واقتصادية مازالت ماثلة اليوم ؛ سنجدها جميعا نتاج اخفاق النخبة السياسية الحاملة لفكرة الاندماج والتعايش في كنف كيان واحد ، فالفرصة حينها كانت سانحة ، والمجتمع متحفز ومهيأ لبلوغ المستقبل المنشود ، لكن بالمقابل الحامل السياسي لم يكن عند مستوى الفكرة والمسئولية والثقة والجهوزية كي يعبر بشعبه ووطنه صوب غايته المرجوة ! .
وحين تكون الفكرة والمهمة أكبر من حاملها السياسي بكل تأكيد مآلها الوقوع في مشكلات مجتمعية وسياسية لم تكن في حسبان الجميع ،فما نراه اليوم من مشكلات قاصمة لفكرة الدولة الواحدة ولطبيعة المرحلة والمهمة هي في الاساس نتيجة حتمية لذلكم التفاوت الشاسع والكبير بين ضخامة استحقاقات المهمة الوحدوية الانتقالية التاريخية وبين هُزال وضعف الاداة السياسية الموكل لها تجسيد فكرة التوحد ، فيما هي غير مؤهله وقادرة لمهمة تعد أكبر من حجمها وتفكيرها .
اليوم أجد المسألة تماثل لحد ما حالة الفراغ السياسي الناتج ثورات الخريف الاوربي 89م ،إذ ذاك عُدَّ التوحد طريقة مثلى للهرب من استحقاقات سياسية وديمقراطية اتت بها رياح التغيير القادمة من دول المشرق الاوربي ، فبدلا من التعامل بواقعية وموضوعية مع ما حدث في رومانيا وبولندا والمانيا وغيرها من دول المنظومة الشمولية ؛ راينا قادة الجنوب والشمال يفرون الى الامام ، ومن خلال ركوبهم موجة توحد سياسي تم حبكة وصياغته بمثالية وانانية اساسها حسابات نفعية ذاتية بعيدة الصلة بالمصلحة الجمعية .
القوى السياسية المثقلة بالصراعات والثارات الماضوية ليست مؤهلة الآن لمهمة كبيرة كهذه التي يستلزمها نمط اخر من القيادات ، ومن الافكار ومن الوسائل ، لا يمكن ان نتحدث عن حوار وطني ودولة اتحادية ديمقراطية ، وعن دستور جديد ، وجيش قوي وحديث ، وانتخابات حرة ونزيهة ، واحزاب سياسية ؛ ومن ثم تكون أداة التنفيذ عقيمة وعاجزة عن فهم واستيعاب هذه المفاهيم .
نعم فكثير من هذه القيادات ربما بمقدورها التوافق او عمل هدنة او حتى الاتفاق على قوائم اللجان الانتخابية ، لكنها وإذا ما تعلق الامر بإنجاز مهمة تاريخية واستثنائية ، وبالتقاط الفرصة الراهنة كيما يعبر الوطن وينتقل من حالته المتخلفة الى المستقبل المأمول ؛ فإنها ليست مؤهلة للقيام بهكذا دور ومهمة هي أعجز من ان تحملها على عاتقها ، واكبر من ان تدركها وتستوعبها .
البعض يتعجب كيف ان اسكافيا مثل لولا دا سيلفا رئيس البرازيل الاسبق أو خوسيه ازنار رئيس حكومة اسبانيا الاسبق او مهاتير محمد او رجب طيب اردوغان او غيرهم من الاسماء المعاصرة التي يحسب لها وضع اوطانها على جادة الدول الناهضة وخلال مدة وجيزة ؟ .
اننا نتحدث وبإسهاب مكرور وممل عن معجزات اقتصادية وتكنولوجية وتنموية وصناعية تحققت على يدي هؤلاء الرؤساء ،فقلما تجد شخصا يحدثك عن خلفية هؤلاء الثقافية والعلمية والفكرية والنضالية التي صنعت من خياط احذية زعيما تاريخيا ، ومن بائع البطيخ نموذجا مشرفا يقتدى به ، ومن طبيب اطفال واحد من عمالقة الاقتصاد والادارة الحديثة ! فما من ريادة وما من نهضة وما من ازمة وكارثة – ايضا - تأتي بغتة ودون مقدمات ودون قيادة سياسية ؟
المسألة هنا لا تتعلق فقط بتوافر الفرصة المناسبة وبكون الفرد العادي مهيأ أم رافض ؟ لكنها ذات صلة بحامل رأيه العبور والانتقال الى المستقبل ، حين اقارن ما بين تجربة جنوب افريقيا او اسبانيا او كوريا الجنوبية او الهند او تشيلي او او او الخ من الدول التي قدر لها اجتياز مرحلة شاقة وصعبة ؛ فلا أعثر على نخبة سياسية وكاريزمية تضاهي تلكم القيادات السياسية الاستثنائية ، هذا الفقدان للقيادة الحيوية الملهمة والقوية سيكون له اثره السلبي على مجمل العملية الانتقالية .
فإذا ما ظلت المرحلة الراهنة على هذا المنحى العبثي الغوغائي المتوجس الجزع المخاتل الطافح بالتكتيكات الانانية والحسابات الضيقة ؛ فان الحوار الوطني القادم لن يكون إلا مشكلة جديدة أكبر واخطر من المشكلات القائمة المدرجة في اجندته ، فالحوار المزمع ان يتصدى لمسائل وطنية ماضوية اثقلت كاهل البلاد والعباد صار أشبه بحلبة نزال بين خصوم يتربص بعضهم بعضا ، فالمهم في هذه الحالة كيف يوقع خصمك وكيف تذله وتجبره للخنوع ؟.
فالواقع يشير الى تكرار الخطأ الفادح والجسيم الذي وقع للتوحد قبل عقدين ويزيد ، قد تكون صورة التوحد مختلفة نسبيا من جهة شكلها وحجمها لكننا وإذا ما نظرنا لصورة المرحلة الحالية فسنجدها تماثل الامس في جوهرها ومحتواها وظرفيتها الناشئة ، ففي الحالتين يكاد قاسمها المشترك واحد ويكمن بتخلف الموحدين او المتحاورين ، فحين تخلفت اداة التوحد عن مجاراة تلكم المرحلة الناشئة عن ثورات اطاحت بأنظمة ديكتاتورية ؛ كان من تبعات هذا التخلف توحد لم يدم وقتا حتى برزت مشكلاته وصراعاته .
المرحلة الانتقالية الآن اجدها تشبه لحد كبير الامس البعيد ، فهناك هوة سحيقة ما بين مثالية فكرة الانتقال السياسي والمجتمعي والوحدوي وبين موضوعية الافتقار للحامل السياسي الذي بمقدوره اخذ زمام المبادرة وادارة المرحلة بناء ومقتضيات الدولة الجديدة التي ينشدها الجميع ، هذا العوز الشديد للسياسي المتخلق من روح اللحظة الثورية المفعمة برغبة الانتقال من حالة الجمود والتخلف الى سياق متطور وافضل؛ بدوره سيبقى الباب مشرعا على مشكلات جديدة ، إذ ستعد عملية الانتقال - الحوار وهيكلة الجيش وصياغة الدستور وبنيوية الدولة - مجرد توقف لاستعادة نفس ، ومجرد طريقة ماكرة وملتوية لحمل الدولة المنشودة القادمة مشكلات وازمات ماضوية مضاعفة .