ثوار وشهداء أم قتلة ولصوص ؟!
كنا نظن بان جريمة مقتل مدير عام بنك التسليف الزراعي والسمكي ؛ ستكون منتهى الجرائم المطأطئة لهامات الرجال ، ومستهل لصحوة جمعية موقظة للضمائر والوعي والفعل ؛ فكل هذه الاشياء اصابتها غيبوبة مفاجئة جعلتها عاطلة أو قولوا خاملة عاجزة عن ادراك واستيعاب ما جرى ويجري من حولها .
لكن الجريمة الشنيعة لم تكن نهاية لمسلسل الدم النازف وللخوف والرعب والتقطع والنهب والتخريب مثلنا ظننا واعتقدنا وقتها ؛ بل مثلت بداية لجرائم جديدة منكسة للرأس ومشوهة للحق الجنوبي العادل الذي تم انتهاكه ظلما وعدوانا وتحت يافطة (تحرير شعب الجنوب من اغلال وقيود الاحتلال الشمالي الغاشم) .
نعم لحقت الجريمة جرائم متتالية دونما توقف ، واليقظة القصيرة تبعها سبات عميق وطويل ، والحادثة - ساد الاعتقاد برهة بانها مجرد واقعة قتل عارضة - المخجلة والمهينة لكبرياء وتاريخ ونضال مجيد مازلنا نفخر به ونتشرف لحقتها حوادث منكرة وفظة ومشينة جعلتنا نتوارى خجلا بكونها حاصلة في بقعة عزيزه وغاليه كالضالع الحرة الابية الرافضة لكافة صنوف الظلم والقهر والاستعباد والذل والقتل واللصوصية والتخريب ووووالخ من الافعال المخزية المنتهكة لحق العابرين والوافدين والمقيمين في ان يعيشوا أو يسلكوا بسلام وطمأنينة ودون خوف او وجل على حياتهم وكرامتهم ومالهم وانسانيتهم .
يسأل أحدهم وبكل فجاجة ووقاحة : القتيل شمالي أم جنوبي ! يا الله ؛ ما هذه المصيبة التي رزينا بها بفعل جماعة ضلت وزاغت طريقها فلم تجد غير امتهان القتل والحرابة ؟ ما هذه الكارثة وما هذا العار والخزي الذي يراد لصقه بنا فيما نحن منه ابرياء براءة ابن آوى من دم يوسف بن يعقوب ؟ كيف يكون القاتل شهيدا؟ .
كيف يكون اللص وقاطع الطريق والكهرباء والماء شهيدا؟ كيف تكون الحرابة عملا ثوريا وبطوليا ؟ وكيف يكون قتل الابرياء والمستضعفين والموظفين والعابرين مهمة كفاحية ونضالية تستوجب التباهي والفخر بها ؟ لا أعلم كيف يكون الانسان ضحية ومظلوما وفي ذات الوقت يكون جلادا وظالما ؟ القاتل المعتدي شهيدا يتساوى مع الشهيد المقتول المعتدى عليه ؟ .
سأكون صريحا وصادقا معكم ، فلدينا في الضالع مشكلة تتعلق بوراثة الابناء لنضال وتاريخ ابائهم ، وكأنه لا ينقصنا ما نعانيه اليوم من إرث سياسي انهكه توريث المناصب الرفيعة في الدولة ! فواحد مسكون ببندقية أبيه ضد المستعمر الانكليزي وآخر يتمثل دور أبيه القيادي والنضالي إبان حقبة ثورة اكتوبر 63م ، أخر كان اباه سفيرا او وزيرا أو محافظا أو برلمانيا أو شخصية نافذه ومرموقة لها حضورها السياسي والمجتمعي ، أو قائدا عسكريا أو امنيا ووووالخ .
النتيجة بالطبع مأساوية وكارثية على الجميع ، انني لا أنظر الى ما يحدث في الضالع أو ردفان أو غيرهما من المناطق الساخنة الثائرة منذ عقد ونصف تقريبا ؛ بمعزل عن سياق عام مختل افرزته حرب 94م وكان من تجلياته السلبية القبيحة هو إنه لم يكتف بإقصاء وتهميش ومصادرة كل ما له صله بالطرف المهزوم عسكريا ومعنويا وسياسيا ؛ بل استمر في ذات النهج الرافض لأية عملية تسوية وتطبيع من شأنه ازالة اثار الحرب ووقف حالة الضيم والغبن المتصاعدة جنوبا جرا هذا الاقصاء والاستئثار والهيمنة القبلية المناطقية الجهوية .
هؤلاء الفتيان الخارجين عن النظام والقانون والاعراف والتقاليد ليسوا سوى ضحايا سنون من التعبئة الخاطئة ومن الانتهاكات الصارخة المقترفة باسم حفظ وحماية الوحدة ، إنهم فتية ضحية لجائحة الاقصاء والتهميش والمصادرة التي طالت ابائهم واخوانهم ومجتمعهم ودولتهم وتاريخهم ، فما من شيء يأتي من الفراغ ودونما مقدمات ؟ تصوروا دولة بكامل مقدراتها وقوتها ومؤسساتها وادارتها وسلطتها وقادتها ومساحة وقد تم قضمها وابتلاعها ومحوها من معادلة التوحد !
الواقع اننا إزاء جرائم قتل وتقطع ونهب وسرقة لم تكن يوما في الحسبان ، أيا كانت الاسباب والدوافع التي جعلت جماعة من الناس يفعلون ما يفعلونه ؛ إلا أن كل واحد منا يتحمل جزءا من المسئولية الاخلاقية ، الدولة والحكومة تتحمل النصيب الاكبر كونها لم تفعل شيئا يطمئن الكثير ممن أُقصوا وسُرِّحوا ونفوا ، فبرغم الثورة المظفرة على نظام عائلي عسكري همجي فاسد مازالت ثقة هؤلاء مفقودة بكونهم جزءا من الحل المزمع .
مكونات الحراك تتحمل وزر الانحراف الحاصل فتكريسها لمبدأ التوريث للنضال بدوره جلب لها محنة القيادات المقتفية أثر كفاح وبندقية وطريقة الاباء بدلا من انتهاج النضال السلمي المدني الحضاري المتساوق مع الواقع الجديد المختلف كليا فكرة ووسيلة واداة وفلسفة .
المجتمع – ايضا – يتحمل من هذه المسئولية الاخلاقية ، فلو إنه لم يلوذ يصمته ، ولم يخف أو يداهن البغي والعدوان لما استفحلت هذه الجرائم المنكرة ولما راح ضحيتها شباب بمقتبل الحياة ، الاباء كذلك اعتقد انهم مشاركون في الجرائم الحاصلة ، فلو أنهم تخلوا عن ذاتهم الانانية ؛ لكان اولادهم واقاربهم في موضع مشرف ولائق .
ربما لم يحتملوا ما وقع لهم من اقصاء وتهميش ونهب وقهر ؛ فكان من تبعات ملازمتهم لبيوتهم هو أنهم افرطوا في تلقين صغارهم ومشاطرتهم كل ما يضمروه في صدورهم من مكبوتات فائضة بالانتقام والعداوة والكراهية ، قليل من هؤلاء هم من استطاع التماهي مع معاناته بذكاء وحنكة ومرونة وإيثار الصالح الجمعي على الشخصي .
الثوار لا يسرقون ، الثوار لا يقتلون من أجل كلاشينكوف ومخزن ذخيرة ، الثوار لا يتلقفون سيارة كي يتفيدون حمولتها ، الثوار لا يفعلون اشياء مخجلة ومخزية ، الثوار لا يقطعون طريقا ولا يقتلون عابر سبيل أو يسرقون وينهبون ، الثورة شرف ومجد وإيثار وتضحية واخلاق ونضال ونبل وفعل جدير بالزهو والاعتزاز .
الشهادة لا تمنح للقتلة واللصوص وقطاع الطرق ، الشهادة مفردة وصفة لا يستحقها إلا اولئك الذين نذروا انفسهم وحياتهم في سبيل الحق والعدل ونصرة المظلومين ، الشهادة لا تعني خيمة عزاء ووليمة كبيرة ؛ بل الشهادة قيمة عظيمة وصفة رفيعة لا ينالها قاطع طريق أو سافك دم ابرياء أو لص احترف السرقة والنصب والحيلة .