مدينة تعز..نكهة الريف اللذيذ
يُغريك نسيم الوادي المنساب نحو جداول "ورزان" العذبة جنوباً، ثم تهزّ جوارحك ألوان تمخر من أمامك تحملها ثياب إحدى جميلات "جبل صبر" البهي. سأوقفك هنا تتلذذ بنكهة الريف، وأمضي لشأني خلف تلك الألوان الصارخة بفيضانات الأدهاش التي تنوء بها هذه الحالمة.
خلفها.. أمشي مستمتعاً بريح الريحان الغض الذي يحتل زوايا المكان، أعجب لخفة خطواتها ورأسها المعصوب بشريط ملؤه الزهور يكاد لا يهتز بما يحمله من بضائع الجبن الريفي الذي لا يصنع إلا في تعز، وخبز دافئ يحمل ألوان ومذاقات جميع حبوب الأرض. تنهب الأرض نهباً قبل أن ينطلق خيط الصبح الأبلج نحو سوق "الشنيني" في المدينة القديمة. فنوم الصبح من محرمات نيسان هنا.
خلف السوق تومض قباب ومآذن عظيمة بكرنفال أبيض بهيّ. يميناً أمضي لأقف أمام مشهد واسع مهيب أمام حفرة التاريخ لتستقبل عيناي الصغيرتان جلال جامعي المظفر والأشرفية الرسوليين يحرسهما أعلى اليسار قلعة القاهرة الحربية العتيدة. المظفر.. إنه جامع تعز الكبير الذي يقيم التعزيون فيه صلاة الجمعة منذ بناه يوسف بن عمر بن رسول "المظفر". وما إن تخرج من المظفر حتى تدلف روعات الأشرفية بمأذنتيها الرسوليتين الشهيرتين بفرادة تصميمهما في كل تعز.
هذا هو نيسان/ ابريل، يمكنك أن تستمتع فيه بنقوش سقفه وتجاويف قبابه ونوافذه الملونة بعد أن تم ترميمه كاملاً بعملية جراحية دامت خمس سنوات كاملة، أنجبت خلالها اكتشاف قبو كامل أسفل منه يمتلئ بمرافق جمالية تحبس الأنفاس.
ترنو عيناي الى الجوار نحو "قلعة القاهرة" لأبدأ في سلك طريق دائريةً بموازاة جسدها العظيم الذي ينطلق أساسها الصخري من جذور الجبل الدائري الذي جعلها متأهبة للوثب على أي لئيم يفكر في غدر أي جزء من المدينة العتيقة.
لم تأخذ اسمها من المصرية لكن لفعلها وشراستها الواضحة. أقطعها صعوداً في التواءات متعددة من أجل قنص الأعداء عند كل التواء. جميع أحجارها السوداء مؤطرة بالجص الأبيض تقول بمحاصرة الخير للشر دوماً.
أضع رأسي على الأرض في قمة "القاهرة" لأفتح عيني بعد كثير من الوقت على مشهد ليلي يمتلئ بالنجوم المتلألأة، لكنها غريبة، تومض وتخفت ليست كنجوم الدنيا! يأتي صوت من خلفي وقد استمع إلى خواطري المتراكمة ليقول (هذه ليست سوى أضواء جبل صبر الأخضر الذي يحيط معظم "تعز" لتركن إلى حضنه الواسع حين تنام، وضرعه الدافق حين يعز عليها الطعام. ينهض السكان الصباح ملبين نداء الديك، تتقاطر على أثره نساء صبر بثياب الدهشة تلك على رؤوسهن قفف الرمان والتين والكاذي المعطر وبعض من قواريرالسمن والحقين البلدي.
يا إلهي ما لهذا الجبل البشري لا يقف عن الخفقان بكل هذا الحب الفياض! فعلى جسده العريض تتناثر خرائط الأنبياء والأولياء الصالحين و"كهف رقيم" الثلاثمائة سنينَ وازدادوا تسعاً! وفي قلبه الحاني لا تجد مكاناً للفزع، بل يثير غمامات السماء وجداً ويستثير عاطفتها الباكية غدقاً يطرز أحضانه بلون الخير العابق.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها