المسلسلات التركية والأيدلوجيا المجتمعية
لاتتردّد جدتي الحاجّة، وهي تبلغ السابعة والثمانين من العمر، في “الخبط” على ركبتها التي تؤلمها إذ يقوم أحد أبطال مسلسلها المفضّل بإفشاء سرّ يضع بطلتها تحت رحمة العصابة. “ييي…الله لا يوفّقك!”، تعقبها الفتاة الأثيوبية ذات السنين الخمس والعشرين بـ”شفتي؟ قلتلّك هيدا مش منيح”، لتغمز قائلة بأنها، وبرغم معاملة جدّتي لها على أنّها “صغيرة لا تعرف مشاكل الحياة بعد”، فهي قادرة على أن تقرأ نوايا الناس وشخصياتهم.
بروفة صغيرة عن الحياة هي، نشاهدها ونتفاعل معها، ربّما نغتبط ونبكي من الفرح، أو نتحسّر قهرا وحزنا. لكنّ التفاعل هذا قصير الأمد، لا يمسّنا حقّا، تنتهي مدّته بعد 50 دقيقة، فنستطيع الانفصال عنه بعد هنيهة لا تدوم بثقلها على حياتنا. خفيفة على المعدة والأعصاب والقلب هي، لا تترك أثرا دائما، لكنها في الوقت ذاته، نوع من الحركة في هذه المعدة وهذه الأعصاب وهذا القلب… حبّ وتشويق وغدر وكذب ولحظات ألم ودقائق سعادة. حياة بكاملها، لكنها تبعد عنّا مسافة القدرة على خلعها والابتعاد عنها بحيث لا تصبح عبئا علينا.
كما أنها تلوّن وتنظّف و”تشدشد” أطراف حياتنا. البيوت دائما جميلة، بسيطة، مرتّبة وهادئة، الضوء على القدر المناسب من الإشراق، النساء مشذّبات مشدودات الوجوه وعضلات المنكبين (حتى العجوزات منهن)، أجسامهن متناسقة بسيطة ووجوهن جميلة بماكياج خفيف، ثيابهن متواضعة وجذابة، والرجال على قدر عال من الحساسية والجمال، تدمع عيونهم وترتجف الشفّة السفلى لأصغر تفصيل. العالم المثالي هو إذا. لا شيء خارج المقبول، حتى الفقراء نظيفون سعيدون لا تكسّر ملامح وجوههم أعباء الماضي أو هموم المستقبل. حتى المدينة، والبيوت فيها والشوارع. هي ليست نيويورك، ليست ما نراه بعيدا عنّا، بل تشبه ما يمكن أن يكون ببساطة مدينتك، في أي مكان. هو “الحلم التركي” إذا، ينافس بضراوة ويهزم، “الحلم الأميركي”. فحتّى الطقس في هذه المسلسلات رائع منعش دوما. مدن وقرى لم يصلها التلوّث أو الاحتباس الحراري بعد!
كأن المسلسلات التي أدمنها الكثيرات والكثيرون تسعى لأن تقول “إذا كنتم سمينين، بشعين، مجعّدين أو فقراء، تسكنون في مدينة بشعة هرمة مزدحمة حارّة، في شقق لا يكاد يدخلها النور حتى يصطدم بصغر حجمها… فالحق عليكنّ وعليكم. أنتم لم تعملن وتعملون بجدّ لتصبحوا أفضل وأجمل وأنحف وأصغر سنّا أو لتحصلن وتحصلوا على الشريكة أو الشريك المثالي.” تزيد هذه المسلسلات من حسرة من يتابعها. إذ تنظر ربّة المنزل إلى كريم، البطل الحسّاس الرقيق لمسلسل “فاطمة” ، الشاب ذو العينين الحالمتين، ثم تشيح بنظرها إلى ذلك المتهادي بثقل كرشه وقد أكلت السنون الجزء الأمامي من شعره وجعلت من وجهه خريطة غير محدّدة المعالم، يجلس على الشرفة بـ”فانيلّته” الزرقاء وسرواله القصير المزركش وخفّيه البلاستيكيين، يكشّ عنه ذباب تمّوز ويفقّي البزر… فتلعن عيشتها!
لا أقول بأن حال الشريك أو الزوج سيئة أو بأن عليه أن يكون “كريم”، بعد أن يعود من عمل يكرهه في بلد يمقته مع أناس لا ينفكّون يذكّرونه بأنه مجبر على التسابق والمنافسة ليكون محطّ إعجابهم، وبأن كل الرجال عليهم أن يشبهوا “كريم”، العاشق الولهان أبدا… لكن هنا المشكلة بالذات. لا أتوقّع الكثير من “أوبرا الصابون” (التسمية الإنكليزية لهذه المسلسلات بشكلها المكسيكي، لأنها في البدء كانت تبث برعاية شركات الصابون. أو كما أحب أن أعتقد بأن التسمية جاءت لأن هذه المسلسلات ترغي كالصابون من دون توقف)، إلّا أن بساطتها ومقوّماتها الجمالية تجعل منها مؤثّرة، لكنها تبتعد عن تصوير الواقع بأسبابه الموضوعية ومشاكله التاريخية والتراكمات التي تجعل الإنسان فقيرا أو مهمّشا أو بائسا، يعيش حياة لا يريدها. ممّا يفرض علينا الانتباه إلى أمرين: بُعد هذه المسلسلات عن الواقع فإذاً تشويهها له، وخداع المشاهدة والمشاهد و تخديرهما في يوتوبيا “ما كان يمكن أن تكونه حياتهما” من جهة، وخسارتنا لهذه المسلسلات كوسيلة سريعة، بسيطة وفعّالة لنقل الأفكار التقدّمية من جهة أخرى.
المكوّنات الفنية لهذه المسلسلات وسهولة تلقّفها من المشاهدة والمشاهد كونها طيّعة، كافية لتحميلها مختلف المشاكل الاجتماعية القريبة من الناس، ممّا يمكن أن يجعل منها أداة مثالية لعرض الواقع ومحاولة جدية لكسر المقبولات وحدود المحظورات. أعني بذلك طرح مشروع اجتماعي “محرّر” من أثقال النظام ومحظورات المجتمع والدين.
ربّما يستهزئ البعض من الميديا اليسارية ويقولون بأن الفن السوفياتي كان “ضخّا أيديولوجيا”. فما هي هذه المسلسلات؟ “ضخّ بريء” لنماذج (prototype) بشرية وعمرانية وتشكيلات اجتماعية؟ أوليس هذا أيديولوجيا؟ أوليس انصياع فتيات العائلة الدائم لرب المنزل ايديولوجيا؟ أوليس حب مهنّد ونور وانتصاره على كل الصعاب، كالانتصار الخير على الشر، الأبدي الضروري الذي لا يرقى إليه الشك؟ يقول سلافوي جيجيك بأن الأيديولوجيا موجودة في كل مكان… حتى في طريقة اختيارنا لمقاعد الحمامات! وهو يقول، وكأنه يتكلّم هنا عن هذه المسلسلات بالذات، فإن “وظيفة الأيديولوجيا ليست بأن تقدّم لنا نقطة هروب من الواقع، بل أن تعطينا الواقع الإجتماعي كهروب”.
أقول، وأنا أتحجّج بأنني لدي الكثير من العمل أنهيه ولا أستطيع متابعة هذه المسلسلات، بأن جذب هذه المسلسلات لنا نابع من حاجتنا لها. هي الذات المغتربة، تبحث عمّا يملأ فراغها، يخدّرها قليلا ربّما، بعيدا عن الهموم اليومية، المباشرة أو غير المباشرة. وجع الرأس يخفّ تدريجيا عند رؤية وجه فاطمة الجميلة المظلومة وشفقنا على حالها، بالرغم من استمرار زعيق الجارة التي ما لبثت تسبّ ابنها العاطل عن العمل، والإحباط المستمرّ بسبب ضيق المنزل وسوء الجيرة واستحالة السكن في مكان أفضل لغلاء الأسعار وفقر الحال. الأمور تصبح زهرية فجأة… الكبت والقهر والاغتراب عن الذات، يذوّب كحبّة دواء في الشاي مع مسلسلات تركية أو مكسيكية أو هندية. هي الوصفة السحرية للنظام: كان صاحب المعمل هو نفسه صاحب الحانة التي يدخلها العاملات والعمّال بعد نهار طويل ومضن من العمل في ظروف لا إنسانية. يستعبد العاملة والعامل من هنا، ويقبض من هناك ثمن ترفيههما عن نفسيهما ونسيانهما ولو للحظات، أوجاع العظام والمفاصل والمعدة الخاوية. يقبض ثمن اليوتيوبيا التي يعدهما بها. تماما كما في كتب إيميل زولا، واصف تفاصيل حياة العمّال في تلك الحقبة المؤلمة أوائل الثورة الصناعية حين صفع النظام الرأسمالي القادمات والقادمين من الريف، شبانا كهولا وأطفالا، راميا بهم في صقيع المدينة والوحل والدخان الأسود والفحم وساعات العمل الطويلة… ليجدوا أنفسهن وأنفسهم عاجزين عن تفسير عالمهم وغير قادرين على التواصل مع ذواتهم، في اغتراب هو الأصعب بعيدا عمّا أتوا من أجله… والعالم من حولهم يكمل دورته والمصانع تعمل والعجلة لا تتوقّف، وهم مستمرّون رغم الجنون من حولهم. وهو هذا الجنون الحاصل، في استعباد النظام لنا وما يبدو كاستحالة الخروج منه، هذا ما تخدّره هذه الوسيلة البسيطة من الترفيه.
تنهي جدّتي حلقة اليوم بتنهيدة وجملة تشجيع للبطلة “العشقانة”. “شو يا تيتا، تأثّرتي شكلك؟”، تتنهّد الحاجّة الثمانينية مجدّدا وتقول ويدها على خدّها، وجدّي التسعيني بجانبها، “آخ يا ستّي، حلو الحب!”