ثورات شباب وساحات وفضاء !!
السؤال الكبير المفترض طرحه والإجابة عليه بكل تجرد وشجاعة هو: هل يعي النظام الانتقالي في مصر أو تونس أو اليمن أو ليبيا؛ حجم المهمة التاريخية والسياسية المطلوب إنجازها من كل نظام جديد جاءت به الثورات الشعبية؟ فالإطاحة بالرؤساء وإسقاط فكرة التوريث للجمهوريات أو التمديد للرؤساء الكهلة لم تكن إلا فاتحة لعهد مدني ديمقراطي يتقاطع كلياً وجزئياً مع سياقات الدولة البوليسية القمعية.
فغاية هذه الثورات أكبر من أن تختزل برحيل رئيس عسكري ومجيء رئيس مدني أو عسكري، أو إقالة حكومة الحزب الواحد والرئيس بالضرورة، وتكليف حكومة توافق أو تكنوقراط أو إنقاذ أو غيرها من المسميات التي أفرزتها المرحلة، وعندما نقول بأن غاية هذه الثورات أكبر وأعمق وأشمل ؛ فلأن الرئاسات والحكومات - التي يفترض تناغم أدائها مع إيقاع الثورات الحاصلة – مازالت حائرة ومرتبكة أو قولوا فاقدة القدرة على تحرير ذاتها من ربق الاستبداد السياسي وعبوديته الموغلة في الممارسة والتفكير.
فمثلاً ؛ الثورة في اليمن وكأن غايتها مغادرة صالح دار الرئاسة أو إقالة وعزل هذا القائد العسكري أو ذاك المسئول المشكوك في ولائه ، لكننا لم نثر ونضح ونفقد خيرة القوم ونواجه كل صنوف القتل والبطش والتخريب والتنكيل ؛ كي يهبط رئيس ويصعد رئيس، كي يذهب علي مجور وحكومته ويأتي محمد باسندوه وحكومته.
أعتقد أن المسألة أكبر وأعظم من أ، يتم ابتسارها على هذه الشاكلة والسطحية المختزلة لثورة شعب وكفاحه وتضحيته ونضاله التاريخي الطويل؛ وكأنها مجرد انتفاضة لإسقاط رئيس وإحلال نائبه، أو أن ما حدث ليس إلا صورة مكررة من ثورة فبراير 48م على الإمام يحيى، بمعنى آخر اغتيال إمام من آل حميد الدين وتنصيب إمام من آل الوزير، أو كما يقال "ديمة وقلبنا بابها".
الواقع أن ثورات الشباب العربي مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة لن تكون كثورة الضباط الأحرار في الخمسينات والستينات، فلكل من الحالتين ما يميزها من الوسائل والأهداف والقضايا والأسباب والشعارات، فثورات الضباط أسقطت أنظمة ثيوقراطية وراثية متخلفة كما استطاعت تحرير أوطانها من الاستعمار المحتل لها مستخدمة سلاح وخطاب ودعم المجتمعات العربية وحماستها ومقاومتها.
لكنها بالمقابل أخفقت وفشلت في تحرير المواطن العربي من خوفه وتخلفه وقيوده المكبلة لحركته ونهضته وطاقته، فنصف قرن ويزيد وهذه الجمهوريات ليست سوى كانتونات رعب وقهر وقتل وممانعة لكل إصلاح وتغيير يمكنه فتح كوة أمل وتفاؤل لمجتمعات أسيرة أنظمة عسكرية استبدادية فاسدة.
وإذا كان هذا هو حال ثورة الأمس وجمهورياتها المختلفة ـ التي يحسب لها تخليص أوطانها من أنظمة رجعية واستعماراً؛ فإن ثورة اليوم مختلفة في أداتها وخطابها وتعبيرها وتطلعها وأفكارها، نعم قد يقول قائل: وماذا تبدل أو تغير لنزعم بأن ثورات الحاضر ستكون مختلفة كلياً عن ثورات الماضي ؟ فالمبادئ هي المبادئ والأهداف هي الأهداف وشعارات التحرر والمساواة والوحدة والعدالة، وحتى بندقية جيفارا وكوفيته وصورته وكفاحه، فكل ما ثار عليه ثوار القرن الفائت مازال قائماً وسبباً رئيساً في ثورات الوقت الراهن.
نعم.. فجل ما نشاهده اليوم لا يعدو عن كونه ثورات شعبية طافحة بالغضب والانفعال والعنف وحتى الإحباط والتفاؤل معاً، ثورات عنوانها الربيع لكنها قد تصير خريفاً ليس على الحكام فحسب وإنما على الشعوب الثائرة التي ستجد نفسها وقد سقطت هي الأخرى وفي أتون طغيان جديد تدثر رداء الثورة واعتمر مبادءها وشعاراتها الملهمة المثالية.
نعم.. فكل هذه التوجسات والهواجس مشروعة في ظرفية مرتبكة وغائمة كهذه التي تراوح فيها الثورة ما بين كونها ثورة لتغيير اليمن نظاماً وثقافة ووسيلة ووحدة ومجتمعاً وجوهراً وفكراً وإنساناً وحاضراً وقادماً، وبين اعتبارها مجرد ثورة لإصلاح النظام السابق وإعادة ترميمه وتأهيله بناء على حاجة النظام الجديد الصاعد لتوه.
فالنظام الآتي على كاهل ثورة الشباب وتضحيتهم الكبيرة غايته وطن آخر تسود فيه العدالة والحرية والمواطنة وغيرها من المبادئ والشعارات الكبيرة التي تتقاطع كلياً وجزئياً مع ثورات ونظم ووسائل وإرث ماضوي موغل في صلفه ومقاومته وإفساده لكل فكرة نافذة لعمق الإنسان وتحدياته وآماله وحياته المستقرة المزدهرة.
فثورات الشارع العربي لا أظنها ستكون نسخة مكررة من ثورات البندقية والمجنزرة، وعليه فإن هذه الثورات الشعبية ستظل دائبة ومستمرة على مدى السنوات القادمة إذا لم نقل ثلاثة أو أربعة عقود، إنها لن تكتفي بخلع حاكم متسلط وفاسد واستبداله بحاكم ينهج التسلط والفساد.
فما يميز هذه الثورات هو أنها ثورات شباب وجماهير وساحات وفضاء مفتوح لا ثورات ضباط ونخب وتواريخ وهدف واحد هو الخلاص من طاغية أو محتل، ولأنها كذلك ؛ فيتوجب على الحكام الجدد ومن الحكومات والبرلمانات هو تمثل روح هذه الثورات، والتماهي مع قضاياها ومطالبها كي لا تجد نفسها ثانية وثالثة ورابعة في مواجهة ثورات مطالبة برحيلها.
من يعتقد أنه بإمكانه الانقلاب على هذه الثورات وبمجرد وصوله للسلطة وإمساكه بمقاليدها ؛ فإنه سيواجه بثورات وانتفاضات شعبية وفئوية لن يستطيع معها البقاء في الحكم أكثر من الفترة الممنوحة له دستورياً وشعبياً وانتقالياً، إننا وحين نقول هذا الكلام ؛ فلأننا ندرك ونعلم يقيناً بأن المجتمعات متى تحررت من خوفها وقيودها وطغاتها وكانتوناتها العائلية القبلية المناطقية المظلمة القاتلة المهينة؛ فإنه بمقدورها فعل المستحيل وليس فقط إسقاط طاغية جديد أو حكومة أو برلمان.