ولكم في البشير وصالح تجربة وعبرة !!!
كان الصادق المهدي وحكومته قد قررا منح جنوب السودان حكما ذاتيا بدءا من السنة التالية 1988م ؛ لكن فعلة مثل هذه التي اقدم عليها رئيس حزب الامة بكل تأكيد لم يستطب لها الكثير من المزايدين المتطفلين على السياسة ؛ إذ تم الانقلاب على اول حكومة مدنية تحظى بشرعية شعبية ومن خلال تحالف الوية وكتائب الجيش بقيادة الجنرال عمر البشير ، والمصحف والمسجد وجماعة الدعوة بزعامة الشيخ حسن الترابي .
نعم انقلاب عسكري اطاح بحكومة المهدي سنة 87م وكان مبرره السياسي والاخلاقي انقاذ السودان من شبح تجزئة قادمة، ومن حكومة منتخبة مسعاها منح الجنوب سلطة وصلاحية على اقليته الاثنية والطائفية .
لكن القائد العسكري الغيور جدا على وطنه ما ان وصل لسدة الحكم إلا وولج السودان برمته في اتون ازمات لا تنتهي ، فمن انتفاضة الجنوب ، الى الجماعات الاسلامية المتطرفة ، الى انتهاكات جنجاويد دارفور غربا ، الى مشكلات الاقتصاد والارهاب والعلاقات الدولية ، الى حصاره وضربه عسكريا ، الى ملاحقه رئيسه دوليا وجنائيا ووالخ .
أخذ عصاه في يده مستهلا مسيرته المظفرة من تلك اللحظة الفارقة التي أطفأ فيها انقلابه وهج اول بارقة أمل بنظام ديمقراطي تعددي اعقب حقبة ظلامية رزح فيها السودان لوطأة حكم الديكتاتور محمد النميري الذي امتطى مجنزرته ساحقا اول تجربة ديمقراطية تعددية مازالت في طور تشكلها بعيد استقلال السودان .
بَشَّر الجنرال عمر بفتح جديد للإسلام ، ولكن هذه المرة من السودان، ومن تحالف كوفية العسكري وعمامة الفقيه ، الوية الجيش وعتادهم وسلاحهم وكتائب اربطة الجهاد ونفير المساجد . في النهاية وبعيد قرابة ربع قرن يحصل جنوب السودان على استقلاله التام بدلا عن الحكم الذاتي ، وإذا ما ظل البشير يقود البلاد وعلى منواله العسكري المنهك فإنني لا استبعد بتصاعد ازمات هذا البلد الكبير بموارده وثرواته ومؤهلاته الكافية لتنمية قارة ، ففي حال وظل السودان مختزلا بكوفية وعصا البشير فلا اندهش من رؤية اقليم دارفور وقد صار دولة ذات سيادة .
في اليمن تبدو الصورة اقرب الى السودان ، فهذا الرئيس المخلوع قاد وطنه وشعبه الى كارثة حقيقية مازلنا نكابد الخروج منها حتى يومنا . فقبل عقدين من الزمن وتحديدا في 20فبراير 94م وقع في العاصمة الاردنية عمَّان على وثيقة اسماها الفرقاء السياسيين ب" وثيقة العهد والاتفاق " وبمقياس ذينك الوقت مثلت وثيقة القوى السياسية حلا ناجعا وعادلا للازمة المتفاقمة الناتجة عن فقدان الدولة المؤسسية وهو الامر الذي عكس نفسه سلبا على ادارة الدولة الموحدة بطريقة السلق لبيضة الدجاجة .
رئيس البلاد مهر توقيعه أسوة بغيره ممن تقاطرت مواكبهم على المملكة وملكها الراحل حسين بن طلال ، وقتها وصفت المصفوفة بوثيقة انقاذ وتأسيس للدولة اليمنية الحديثة ،لكنه وبمجرد عودته بسلامة الله وحفظه الى صنعاء إلا وصار كائنا هلاميا لا يُعرف أين رجله وأين راسه ؟ ومتى صدقه ومتى كذبه ؟ .
ولأن وثيقة العهد بندها الاول مثَّل فتيلة بارود ادى اشتعالها الى الانفجار الكبير ،فحينما طُلب من الرئيس صالح البدء بتنفيذ هذا البند رد على مطالبيه بقوله شهيرة تم بثها تليفزيونيا : لست عسكريا مع البيض او سواه كي أقوم بالقبض على الجناة مرتكبي الاغتيالات السياسية وكي اقدمهم للمحاكمة " .
بالطبع المواطن العادي كان وقتها يدرك بان القبض على مرتكبي الجرائم السياسية التي طالت 156سياسيا وقياديا في الحزب الاشتراكي – واحدة منها استهدفت حليفة التجمع الوحدوي وهي الحادثة التي اودت بحياة د حسن الجريبي واصابة رفيقة المناضل والمشاكس دوما الفقيد عمر الجاوي – بمثابة اللغم الموقوت في طريق تنفيذ بقية بنود الوثيقة . ربما كان وضع هذا البند الشائك بمثابة اختبار لمصداقية الرئيس ،لذا بقى البيض ورفاقه متمسكون بها الى اخر لحظة .
اندلعت الحرب اولا في عمران وحرب سفيان بعيد خطاب صالح الحربي في ميدان السبعين ومن تجليات المأساة ان الخطاب تزامن مع يوم الديمقراطية في اليمن 27أبريل 94م ومن ثم في سائر الجبهات وللتاريخ كان مسرحها محافظات الجنوب وحدودها الشطرية السابقة مع إب وتعز والبيضاء ومأرب .
قُدَّر لصالح حسم المعركة ونفي شركائه وابتلاع مقدرات وعتاد دولتهم وزد فوقها وثيقتهم وبنودها ، كان لهذا الانتصار العسكري ان اخرج الرئيس عن طوره ليعلن على الملا بمنتهى ما سماها ب" وثيقة العار والخيانة " وهنا عادة ما اسجل استغرابي ودهشتي حيال قولة مثل هذه فيما هو اول الموقعين وأول الناكثين بالعهد ؟ .
الغى مجلس الرئاسة بعد اكبر عملية تعديل دستور في العالم كما وشرع في أكبر عملية نهب وتدمير واقصاء وتوريث في التاريخ ، تخلص من حلفاء الازمة والحرب والسلطة فبمجرد اول استحقاق ديمقراطي نيابي شكلي كان القربان خروج الاصلاح من السلطة واستفراد تنظيم الرئيس بغالبية مقاعد البرلمان وبكامل حقائب الحكومة .
وبمضي عامين اقام الرئيس انتخابات رئاسية صورية لم يفسح المجال فيها لمرشح اخر ذو وزن وثقل مثل المناضل والسياسي علي صالح عباد مقبل امين عام حزب مقاطع لانتخابات البرلمان فلأول مرة في تاريخ الديمقراطية ان يكون المرشح المنافس من حزب الرئيس ووفقا واختيار الرئيس كما ولأول مرة يكون رئيس الدولة والحزب مرشحا لحزب معارض وقبل ان يعلن حزب الرئيس اسم مرشحه . نظم انتخابات نيابية وفاز حزب الرئيس بغالبية مريحة وكاسحة ضمنت له وفي جيب رئيسه كل مفاتيح القرار .
تشبث في السلطة ولدرجة افقدته شركائه وحلفائه واصدقائه وحتى اقرب اقربائه ، الوحدة قتلها شر قتله وعبث في نسيجها المجتمعي افظع العبث ولحد التمثيل المشوه لصورتها المتبقية في نفوس وعقول المتوحدين ، الجمهورية انتهك مبادئها وقيمها ايماء انتهاك ، الثورة واهدافها صلبها على قارعة كرسيه ، الديمقراطية والانتخابات والحزبية ذبحها من الوريد الى الوريد ، الاتفاقات ، والحوارات ، والاصلاحات ، والآمال ، والتطلعات في يمن جديد وافضل كلها وعود تبخرت في السماء ، وكلها احلام مستحيلة التحقق في ظل رئاسة لم تكن يوما رئاسة لشعب ووطن ودولة ووحدة .
لذا كانت ثورة الشباب ضرورة لإنقاذ اليمن وكان الحوار طريقة لاستعادة بلد ولتصويب مسيرته . الآن وبعيد عشرين سنة كاملة على نكث المخلوع بشركائه الموقعين معه على وحدة سياسية وعلى وثيقة لبناء الدولة اليمنية وفق معايير جديدة تقوم على توزيع السلطة والثروة والقوة على كامل اقاليم الدولة السبعة في ذاك الوقت .
عشرين سنة ليست بقليل بمحدد الزمن ؛ ومع كونها ذهبت هباء منثورا ارضاء لشهوة حاكم مهووس بالسلطة ،ها نحن نعود ربع قرن من الزمن كي نفعل ما كان ينبغي فعله قبل الوحدة وبعدها ، وارجو ان ننجح هذه المرة وألَّا نفوت الفرصة الماثلة كي لا نعود ثانية وثالثة وعلى منحى المراحل الفائتة .
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها