ديمقراطيتكم.. ردّت إليكم!
لمسات بني إسرائيل موجودة في أكثر من جانب في الانقلاب العسكري في مصر، وآخر ما يمكن ملاحظته في هذا الإطار مرتبط بعبارة [هذه بضاعتنا ردّت إلينا] الشهيرة في تاريخ بني إسرائيل في مصر؛ والتي صارت مثلاً عربياً بعد أن وثقها القرآن الكريم في سورة يوسف كما هو معروف. واليوم في مصر؛ ومع استمرار الحشود الشعبية المليونية المعارضة للانقلاب العسكري في الميادين والشوارع لأكثر من ثلاثة أسابيع مطالبين الاستجابة لمطالبهم باعتبارهم أيضا (شرعية شعبية) مثل التي أجبرت الجيش على تنفيذ الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب، اليوم لن يكون غريباً أن يقول مؤيدو الانقلاب وهم يرون ويسمعون ما يحدث ضد الانقلاب إلا أن يقولوا: بضاعتنا ردّت إلينا!
والبضاعة التي ردت إلى نحور تجارها في مصر واليمن وسائر الوطن العربي هي "مصطلح الشرعية الشعبية"؛ باعتبارها بديلاً سريعاً للوصول إلى السلطة بعد الفشل في الوصول إليها عبر الشرعية الدستورية.. وهكذا صار محمد البرادعي نائباً لرئيس الجمهورية الانقلابي في مصر بدون قشرة، أو بدون انتخابات ووجع دماغ! وتولى عدد من تجار الشرعية الشعبية في أحزاب المعارضة حقائب وزارية في حكومة الانقلاب العسكري ما كانوا ليصلوا إليها بسهولة وبرضا الشعب لو التزموا احترام نتائج الانتخابات.. ومعهم أيضا عاد رموز الحزب الوطني المنحل، رجال مبارك وابنه جمال إلى السلطة للأسباب نفسها: الشرعية الشعبية!
مجمل ردود الأفعال المجنونة السلبية في مصر واليمن وغيرهما تجاه الحشود المليونية المعارضة للانقلاب العسكري، والإصرار على عدم الاعتراف بها كما حدث في 30 يونيو تدل على أن "الشرعية الشعبية" هذه مثل ورق التنظيف "الكلينكس" في دورات المياه (صانكم الله) التي تستخدم فقط لمرة واحدة ثم ترمى فوراً في صندوق النظافة بما فيها من أوساخ وقاذورات.. ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل الجهات السياسية والعسكرية والإعلامية المصرية؛ التي استندت لمصطلح الشرعية الشعبية في تنفيذ الانقلاب العسكري وتأييده؛ تمتنع عن استخدامه مرة ثانية مع المليونيات الرافضة للانقلاب والمطالبة بعودة الرئيس المنتخب!
[2]
من السهل رصد عددٍ من الأمثلة على أن مصطلح الشرعية الشعبية لم يعد محترما عند مبتكريه في مصر والمؤيدين له في اليمن وغيرها.. ومن أظرف هذه الأمثلة ما بدا عليه المذيع والصحفي المصري إبراهيم عيسى مساء الجمعة وهو يندد باعتصام المعارضين للانقلاب فوق كوبري 6 أكتوبر بحُجة أن ذلك ليس من حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية، وتحدى وهو يرفع بيده أوراقاً (يفهم أنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) أن يدله شخص على بند فيها يسمح لمؤيدي الرئيس المنتخب المعارضين للانقلاب أن يعتصموا ويعطلوا مصالح الانقلابيين.. أقصد مصالح المواطنين! وصحيح أن الإنسان سميّ كذلك لأنه ينسى.. لكن ليس المقصود مثل هذا النسيان السريع، وفي بلد مثل مصر؛ شهدت خلال العام الماضي مئات المليونيات، والاعتصامات، والمظاهرات، وأعمال العنف والتقطع ومحاولات اقتحام المؤسسات الرسمية؛ وفي مقدِّمتها قصور الرئاسة؛ وبدعم وتأييد من أحزاب الشرعية الشعبية والقنوات الفضائية المؤيدة لها، يصبح مثل هذا النسيان دليلاً على أن مصطلح الشرعية الشعبية: سيِّئ السمعة مثل مصطلح: فتيات الليل!
هذا ليس نسياناّ طبيعيا بل وقاحة الشرعية الشعبية على الطريقة المصرية، التي تبيح لنفسها أن تفعل ما تريد ثم تحرمه على خصومها.. وإلا طالما أن الشرعية الشعبية مقدّسة وواجب الانصياع لها، فقد صار من الواجب الانصياع لكل شرعية شعبية مشابهة بمجرد العلم بها، ويتأسس عليها تقليد جديد بموجبه يكون أول ما يبدأ رئيس الجمهورية وقادة الجيش والحكومة في مصر يومهم هو سؤال المرافقين: [ما فيش شرعية شعبية جديدة ظهرت وإحنا نايمين؟ لا يا فندم الحمد لله.. جات سليمة! إنت متأكد.. يمكن ما سمعتش حاجة وإلا الخبر لسه في الطريق.. طيب إيه حكاية الزيطة دي اللي في الشارع.. مظاهرة دي وإلا اعتصام وإلا نيلة؟.. يا الله بسرعة روح شوف إيه الحكاية.. مش نلبس ونتشيك وبعدين يطلع أن الفريق ديدي.. وإلا العميد فيفي.. وإلا الشاويش كيكي أصدر بيان تأييد لشرعية شعبية هنا وإلا هناك وإحنا نايمين؟ طب اتأكد كمان.. ما فيش مسؤول إماراتي اتصل بالليل وإحنا نايمين؟].
الآن.. لم يعد مفيداً في زمن الشرعية الشعبية أن يبدأ قادة مصر العسكريون والمدنيون يومهم بتبادل تحيات الصباح والتمنيات الطيبة مع أهاليهم ومساعديهم مثل: [صباح الخير يا مصر.. صباح القشدة يا سيسي.. صباحك فل وشرعية شعبية يا عدلي.. إزيك يا حاج برادعي، نمت كويس؟ طيب ما لك كده مش على بعضك؟ يا راجل خليها على الله أنت حتأخذ من الحكومة حاجة .. كلنا للشرعية الشعبية.. المهم: الصحة والستر!].. خلاص انتهى الزمن الجميل لفترة الصباح.. وصار على كل مسؤول أن يبدأ يومه بالتأكد أنه مازال شرعيا، وأن الجيش لم يتحرك استجابة لمسيرة أو اعتصام.. أو تليفون من الإمارات!
[3]
غضب مؤلفي مصطلح الشرعية الشعبية من اعتصامات واحتجاجات ومسيرات المعارضين للانقلاب؛ تذكرنا بالهيجان الذي كان يثيره أتباع نظام المخلوع اليمني ضد الاعتصامات الشعبية ضده، ومطالبتهم اليومية برفع الاعتصامات حفاظا على مصالح المواطنين وأهالي حي الجامعة، وإلى درجة أنهم كانوا ينظمون صلاة جمعة في شارع الزراعة يشارك فيها منظمو اعتصامات نظام صالح، ومقاولو توريد البلاطجة والمعتصمين إلى ميدان التحرير، ومدينة الثورة، وعصر وغيرها من الاعتصامات.. ولنفس السبب المصري (أي الوقاحة!) لم يكن هؤلاء يجدون في اعتصام التحرير كراهة ولا عيباً ولا تناقضاً مع القانون.. ولا يجدون أن مضايقة أهالي تلك الأحياء سبباً كافيا يجعلهم ينظمون صلاة جمعة أو صلاة جنازة احتجاجا على اعتصاماتهم بعد أن أفتى المخلوع اليمني أن منطقة التحرير غير إستراتيجية؛ حتى مع وجود يحيى الراعي فيها!
ومن القواسم المشتركة لبلاطجة الانقلاب العسكري المصري وبقايا نظام صالح؛ ترديد نفس القاذورات الأخلاقية ضد المعتصمين المعارضين لهم.. وكما كان بلاطجة اليمن يروّجون لحكايات قذرة عن خيام الخلوة بالنساء في حي الجامعة؛ فها هم بلاطجة الشرعية الشعبية في مصر يروجون لنفس الحكايات عن خيام نسائية في ميدان رابعة العدوية لممارسة جهاد النكاح! وللعلم هذه القاذورات ذكرتها صحيفة "الميثاق" في اليمن (وقد رددنا عليها في وقتها!)، وفي مصر ترددها منسوبة إلى: وكالات أنباء دون اسم صحيفة "التحرير" -ورئيس تحريرها هو نفسه إبراهيم عيسى المذكور سابقاً- التي نشرت خبراً قذرا عن امرأة تم اختطافها من الشارع في القليوبية وتخديرها وتهريبها إلى القاهرة لإجبارها على ممارسة الزنا في خيام جهاد النكاح بميدان رابعة العدوية (أصل القاهرة ما فيهاش مجاهدات من هذا النوع، فراحوا يستوردوا من خارجها!).. المهم وفق الخبر: وجدت المرأة نفسها في خيمة ومطلوب منها ممارسة الزنا للترويح على المعتصمين (في رمضان؟) لكن الشريفة العفيفة رفضت وقاومت، فجاءوا لها بنساء حاولن إغراءها بخمسمائة جنية يومياً.. لكن الشرف ما فيش أحسن منه.. فهربت الشريفة وقدّمت بلاغا نشرت الصحيفة رقمه وتاريخه وحتى أسماء الضباط الذين يتولون التحقيق فيه!
الخبر لاقى استنكارا وتكذيبا فوريا حتى ممن قالوا إنهم مؤيدون للانقلاب (باستثناء واحد قال إن ذكر أسماء الضباط دليل صحة الخبر.. أكيد موظف في وزارة الإعلام!)، وشنّت على الخبر حملة سخرية كان أظرفها من واحد استنكر على المرأة رفضها خمسمائة جنية في اليوم (مع السكن والأكل والشرب المجاني).. وقال إنه مستعد مقابل ذلك أن يحل محلها!
وفي سوهاج زعم إعلام الانقلاب أن شابا إخوانياً هدد والده ووالدته المسنين وأشقاءه بالموت إن لم يذهبوا معه للاعتصام في ميدان رابعة العدوية، ولإثبات جديته سكب البترول على أثاث البيت مهدداً إياهم بالحرق مما أصاب أسرته بصدمة.. الشرعية الشعبية، لكن الحمد لله الجيران سمعوا الضجة والصراخ واستدعوا الشرطة التي جاءت مسرعة وفتحت محضر تحقيق وجاري البحث عن الإخواني الهارب!
وفي القاهرة نفسها؛ ألقي القبض على أربعة مصريين في شارع قصر العيني (عرين المؤيدين للانقلاب) كانوا يكتبون عبارات منددة بالانقلاب على جدران مقر مجلس الوزراء مثل: "يسقط حكم العسكر.. خائن.. قاتل!".. ومع أنهم لم يذكروا اسم الخائن والقاتل إلا أن المخبر المصري ابن البلد الذي قبض عليهم فهم أنهم يقصدون سيادة الفريق السيسي، وربما سأله الضابط المناوب عن كيف فهم أنهم يقصدون سيادة وزير الدفاع، فرد عليه متأففاً: [يا بيه.. أنتم هتعلمونا شغلنا.. دا ما فيش خائن وقاتل إلا هو؟].
[4]
تزييف صور مظاهرات 30 يونيو صارت إحدى قضايا الانقلاب العسكري في مصر بعد أن فضحت مؤسسات غربية متخصصة زيف الصور التي تم توزيعها لإثبات صوابية تدخل الجيش استجابة لمطالب الشعب.. وصار رقم 30 مليون متظاهر الذين قيل إنهم خرجوا إلى الشوارع ضد حكم الإخوان أضحوكة عالمية، وصار معلوماً أنه كان فيلماً سينمائياً وفرّ الجيش له طائرة عسكرية وقام بإخراجه مخرج ناصري معارض يبدو أنه رضع التزوير من طفولته من أيام 99،99 %!
الحق أقول لكم: سقط الانقلاب في مصر أخلاقياً يوم اقترف الأكاذيب والبهتان على المعتصمين، ويوم قتلهم وهم يصلون الفجر أمام دار الحرس الجمهوري وفي ميدان رمسيس، وسقط سياسياً ساعة ظهرت حقيقة الدور الذي قامت به القوى الحزبية المصرية الخاسرة في الانتخابات، والدول الإقليمية التي دعمته مالياً فور نجاحه، والمباركة الغربية له.. وسقط شعبياً منذ أصر الرافضون له ألاّ يستسلموا واعتصموا في الميادين، وأخرجوا مظاهرات بالملايين ودون إخراج سينمائي متحدين قمع الانقلابيين وهمجيتهم!
والمهم أنه سقط منذ أيده المخلوعون العرب وبقايا أنظمة الفساد واللصوص في اليمن، وهللوا له، وعدوه انتصاراً لهم بأثر رجعي!
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها