سحقا لكومة حجارة !!
العم صالح اذكر انه قبل يوم الوحدة 22مايو 90م كان قد عاد مبهورا مندهشا من النهضة الرأسمالية التي رآها في صنعاء وتعز وسواها من مدن الشطر الشمالي من الوطن ، وقتها لم يعر اهمية لاعين السابلة المندهشة – ايضا – من رؤية سيارته الغريبة " لاند روفر " وهي اشبه بتحفة اثرية انكليزية وسط زحام كثيف لموديلات يابانية ، كما ولم يعط اهمية بكون البنايات الفريدة في حجارها البيضاء والسوداء وكذا تأنقها يمكن لها ان تخفي فقرا مهولا ، وجهلا مروعا .
ليس عمي وحده من خدعته مظاهر عمرانية منتصبة على جانبي خط الاسفلت ؛ فحتى قيادات الدولة الجنوبية وقعت في شرك انبهارها الوقتي الذي سرعان ما بددته الاسابيع الاولى ، فيكفي المرء الاقتراب من كومة احجار مشيدة ببذخ ارستقراطي قلما تعثر عليه في موطن " آدم سميث " ذاته الذي خيل لي الآن انه يلعن فيها نظريته الرأسمالية المنتهكة – بضم الميم وفتح التاء والهاء - بقسوة وفظاظة لا نظير لها في اية بقعة على ظهر البسيطة .
لم احدثكم بعد بان عمي اطال الله في عمره أنه كان ذو نزعة ليبرالية ميالة للتفاوت الطبقي ، فبعكس ابي رحمه الله المتأثر حينها بفلسفة افلاطون وارسطو وجمهوريتهما الفاضلة الخالية من التمايز الفج والقبيح ؛ كان العم صالح قد استغل حماسة شبابه في مغامرة تجارية مطلع السبعينات ، فمن خلال متجر صغير فتحه في حي السلام بدار سعد في عدن ، لربما اراد به اثبات ذاته التواقة للتفرد والتميز والثراء .
محل متواضع بفتحتين مستقبلتين شارعين في قلب الحي الفقير ، فوق المتجر مسكن بسيط مكون من غرفتين وحمام ومطبخ ، وبجوار الدكان تقف سيارة لاند روفر حبة لا ربع . في ظرفية كتلك التي سبقت عاصفة التأميم ببضعة اعوام فقط مثل تملك سيارة ودكان بمثابة بحبوحة برجوازية لا قدرة لأي من أهل الحي الفقراء المعدمين مجاراتها باعتبارها من مظاهر الترف والغنى غير ثوريين .
قبل سنة تقريبا زرت وابن عمي المحامي سامي البرطي عز الدين عبد الوهاب مدير عام هيئة البريد بمحافظة تعز في مسكنه المتواضع في دار سعد ، والكائن بمحاذاة المدرسة التي التحقت فيها ولأول مرة وعمري لا يتعدى السادسة فيما شقيقي المشاغب كثيرا – د . عبدالله – تم الحاقه بروضة ليست ببعيدة عن منزلنا ، هذا العزيز الذي يعد من خيرة الكفاءات الاقتصادية التي يحسب لها انقاذ هيئة البريد وخدماتها ومكاتبها من حافة الموت ؛ طرق وبحسرة ومرارة تجارة ذلكم الرجل الضالعي الذي طغى اسمه برهة ثم هوى متواريا وكأنما هو شهاب تجلى وميضه وخفوته سريعا وفي حلكة عتمة لا يدرك اين مستهلها ومنتهاها .
الى وقت قريب والصديق عز الدين لا يعلم ان سائق باص هيئة البريد ، الرجل الوقور والمنضبط كساعة سويسرية لم يكن سوى صالح الضالعي والد صديقه وزميله مدير عام بريد الضالع وعم كاتب هذه السطور .
نعم لم يكن يعلم بانه وبنبش الذاكرة كان قد ايقظ فينا ذكريات طفولية جميلة ،حنين جارف ظل مكبوتا في الاعماق ، ايام حلوة ولذيذة لا تنسى ابدا ، طيف من وجه العمه " جمعه " الانسانة الرائعة القاطنة في العمارة المقابلة يسكنني بلا مبارحة ، المجنونة " ليطم " ، كوخها المخيف ،كلبها اللاهث خلف اقدام طفولية غضة لا تدرك عاقبة عبثها وشغبها مازال يستوطن ذاكرتي البعيدة .
بائع الجزر الهندي وصوته الذي يتضوع المكان او عربته الخشبية ، الفتيات الحافيات البائعات للدوم المغلي اللذيذ وهن بسني البراءة ، العاب بستان الكمسري ولهو واهازيج كنا نرددها وبشكل فوضوي ونحن على عربات تجرها الجمال مقابل عانات زهيدة – الدرهم او الشلن يضاهي عشر عانات – واحة الحسيني المكسوة خضرة وفل ورياحين وينابيع متدفقة ، سينما بلقيس وكيف صرخت كاسرا لرتابة الصمت وبمجرد رؤيتي لثعبان ضخم يحوم حول مهجع طفل مسترسل بغفوته ؟ .
وعودة لحكاية العم صالح ، فبعيد عودته المظفرة من شمال الوطن سمعته متحدثا وباندهاش العائد من اوروبا او امريكا : نهضة اقتصادية وعمرانية لا نظير لها ، مستوصفات ، وفنادق ، ومصانع ، ونشاط تجاري لا يهمد ، وزحام كثيف لا يتوقف ، لقد سبقونا زمنا طويلا ويستحيل علينا اللحاق بهم ).
سنوات تلت زيارته المدهشة لمدن شمال الوطن ، باع سيارته القديمة " اللاند روفر " كبروا اولاده ومع مغادرتهم القرية لالتحاق بالثانوية ومن ثم الجامعة زاد الانفاق عليهم ولدرجة اضطر فيها العم صالح للاشتغال بمهن عدة كي يوفر لأولاده مصاريف ومستلزمات تعليمهم الجامعي ، يوم اثر يوم ، وسنة تعقب سنة ، وحماسة العم صالح تفتر وتقل رويدا رويدا .
خيبة يتبعها خيبة ، وانكسار يتلوه انكسار ، واخفاق يعقبه فشل ، وكارثة تلحقها كارثة ، والبنيان المضلل يصير في لحظة مجرد كومة احجار ، ومجدر طفرة فساد منظم ملتهم للموارد ؛ وحتى الاعانات والمساعدات . أظن انه وبعد كل هذه التجربة الحافلة بالكذب والزيف والنهب والخراب والفساد تتبدى للعم صالح الصورة كاملة في عريها ودمامتها وتشوهها .
اسمعه يطلق ضحكة مدوية في ارجاء غرفته الصغيرة سخرية مما تفعله قبائل مارب ونهم بخطوط الكهرباء ، ومما يسمعه من قصص وحكايات وتقارير المتحاورين ، فكلما انطفأت شمعة غرفته لعن اليوم الذي ارهق نفسه في الكلام عن كذبة النهضة الرأسمالية المجترحة في جغرافية مازالت خارج الزمن ، ربما أكثر من ذلك فربما صرخ شامتا ومؤنبا وهازئا : سحقا لنهضة لا تبني انسانا مهذبا ونزيها ومتحضرا ومبجلا – ايضا - للنظام والمعرفة والحياة والكرامة الانسانية " .
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها