لاتعبثوا بالوحدة الوطنية في سوريا!
في الغرب يحمون الوحدة الوطنية بكل ما أتوا من قوة. وفي عالمنا العربي ما أسهل العبث بها والتآمر عليها لأغراض فئوية دنيئة. فقبل بضع سنوات فقدت الوزيرة البريطانية آن وينترتون منصبها كمتحدثة باسم رئيس حزب المحافظين لشؤون الزراعة بسبب نكتة سخيفة. فقد تهكمت الوزيرة أثناء تناولها الغداء مع مجموعة من الأصدقاء والصحفيين في أحد الأندية الرياضية على الجالية الباكستانية في بريطانيا. لكن سعادة الوزيرة لم تكن تدرك أن تلك النكتة السمجة ستطردها من الحكومة. فبعد ساعات فقط من وصول النكتة إلى وسائل الإعلام كان رئيس حزب المحافظين إيان دنكين سميث وقتها على الهاتف ليخبر الوزيرة بأنها مطرودة من حكومة الظل التي يرأسها. وقد برر سميث قراره السريع والحاسم بأنه يُمنع منعاً باتاً التلاعب بالنسيج العرقي والاجتماعي في بريطانيا. أو بعبارة أخرى فإن الوحدة الوطنية في البلاد خط أحمر لا يجوز لأحد تجاوزه مهما علا شأنه، وأن أي مس به سيعرّض صاحبه لأقسى العقوبات.
وقد سنت الحكومة البريطانية وغيرها من الدول الأوروبية قوانين صارمة جداً لمكافحة العنصرية والطائفية والتحزب العرقي والديني، بحيث غدا النيل من الأعراق والطوائف والإثنيات والديانات في البلاد جريمة يُعاقب مرتكبها عقاباً أليماً. فالشحن الطائفي والعرقي والإثني والمناطقي والديني ممنوع منعاً باتاً في الغرب، وأن أي محاولة لشق الصف الوطني أو إضعاف التلاحم الاجتماعي جريمة لا تغتفر في الأقاليم الغربية. إن الوحدة الوطنية في أوروبا وأمريكا شيء مقدس، والويل كل الويل لمن يحاول التلاعب بها.
لقد حاولت الحركات الانفصالية في أوروبا الاستقلال كثيراً، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها. فبالرغم من لجوء منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي إلى العنف لعدة عقود من أجل فصل أيرلندا الشمالية عن بريطانيا إلا أنها لم تنجح، وقد وجدت نفسها مضطرة أخيراً للتفاوض مع التاج البريطاني والتخلي حتى عن سلاحها. صحيح أن منظمة الباسك الإسبانية ما زالت تحاول الانفصال، لكن الحكومة الإسبانية لن تحقق لها مرادها على ما يبدو. وكذلك الأمر بالنسبة للكورسيكيين في فرنسا. ولا ننسى أن هناك ولايات أمريكية تسعى منذ زمن بعيد للاستقلال عن واشنطن كولاية كاليفورنيا، لكن الاستقلال ما زال حلماً بعيد المنال بالنسبة لها.
لكن في الوقت الذي تحافظ فيه الدول الغربية على نسيجها الوطني واللحمة الداخلية وتحميهما من التفكك بضراوة عز نظيرها نجد أن التلاعب بالوحدة الوطنية في العالم العربي أسهل من شرب الماء من قبل الداخل والخارج على حد سواء.
ولا أدري لماذا لم يتعظ البعض من تجارب التمزيق المؤلمة. لا شك أن من حق السوريين جميعاً أن يختلفوا ويتصارعوا حول طبيعة النظام السياسي الذي يريدونه، وحول السياسات التي يرغبون تطبيقها في بلدهم. لكن ليس من حقهم أبداً حتى أن يتناقشوا حول الهوية الوطنية لسوريا، فهذه الهوية مقدسة وغير قابلة للطرح مهما حصل قبل الثورة أو بعدها. فالشعب السوري متمسك بهويته إلى آخر قطرة من دمه، ولن يسمح لأحد أن يعبث بلحمته الوطنية كائناً من كان. لذلك فليعلم كل من يحاول اللعب على التناقضات القبلية والعشائرية والطائفية والقومية والوحدات الوطنية لأغراض بغيضة لن ينجح مهما حاول. إن أي فصيل مشارك في الثورات الحالية يحاول أن يعزف على الوتر العرقي أو الطائفي أو القبلي بشكل مباشر أو غير مباشر هو مجرد أداة قذرة لا أكثر ولا أقل. فلينتبه الثوار إلى هذا الفخ القاتل، فالبعض مستعد أن يفعل كل ما بوسعه لضرب الطوائف والقبائل والأعراق ببعضها البعض. لا بل إنه لا يتورع عن دق الأسافين بين أفراد العشيرة والعائلة والطائفة الواحدة لجعلها تنشغل بدمائها بدل الانشغال بتحقيق التغيير المنشود. باختصار شديد؛ فإن التنازع الداخلي على أسس قبلية وطائفية وعرقية وعائلية وصفة رائعة للعودة بنا إلى عصور داحس والغبراء.
إن أوطاناً تسكن على هذا الصفيح الساخن وهذا التنوع الكبير لابد لها من انتهاج سبيل قويم غير ذلك الطرح العليل من تأجيج النيران وإثارة النعرات، وإيجاد كافة السبل للم شمل الأوطان وتوحيدها وتعزيز لحمتها لا توتيرها وتجييشها الذي سيذهب بالجميع إلى الجحيم.
لهذا نناشد الجميع، ومعهم مثقفونا وإعلاميونا ومعارضونا وسياسيونا أن يتعلموا من الدول الاستعمارية التي تدافع عن وحدة بلادها بالحديد والنار، وهي على حق، فلا قيمة لأوطان تسكنها طوائف وملل ونحل وقبائل وبطون وأفخاذ متناحرة وتنام وتصحو على الصراعات الطائفية والدينية والعرقية القاتلة. إياكم والعبث بالوحدة الوطنية في سوريا، فهذا لن يفيد سوى أعدائكم في الداخل والخارج. واعلموا أن هناك قوى دولية تحاول هذه الأيام دعم أزلامها كي يستقلوا في أقاليم خاصة بهم، فكونوا بالمرصاد لها ولهم..