لا تستقيم البلاد والعدالة منكوصة !!
والمملكة المتحدة في خضم مقاومة شرسة للغزاة الالمان خلال الحرب الكونية الثانية كان القضاء قد حكم لسكان حي انكليزي نالهم الاذى والازعاج وضدا على وزارة الدفاع ومطارها الحربي ، إذ قضى منطوق المحكمة بوقف استخدامه ونقله الى منطقة بعيدة خالية من السكان .
نُقل الامر الى رئيس الحكومة حينها ونستون تشرشل الذي لم يغضب او ينفعل إزاء حكم المحكمة وفي ظرفية صعبة وحرجة كتلك إذ وبعيد قراءته لمنطوق الحكم ابتسم واردف قائلا : سننتصر على العدوان النازي وستحرر هذه البلاد ما بقيت فيها العدالة راسخة ومنتصرة للحق وفي اشد الظروف قسوة وإيلام .
ما لم يستقيم ميزان العدالة ؛ سنظل كمن يجهد نفسه في تقويم ظل العصاء بدلا من تقويم العصاء الاعوج وفق تعبير شاعر داغستان رسول حمزاتوف ، فما من أُمة قوية ومزدهرة سياسيا واقتصاديا وديمقراطيا إلا وكان مفتاحها السحري احترام القانون والنظام ! فحين يبجل القانون يسود الحق والنظام والامان ، وعندما تطغي سلطة العدالة على ما سواها من سلطات الرئاسة والحكومة او البرلمان او القوة او المال تزدهر الحريات وتنعم المجتمعات بالمساواة والحريات والاستقرار والتنمية والرخاء والعيش الكريم .
وكيل نيابة يحرر استدعاء لقائد الحرس الجمهوري الاسبق فتقوم الدنيا على رأس عضو العدالة بدلا من يفترض مثوله للتحقيق ! قانون الحصانة يرفع من محكمة ادنى الى محكمة اعلى ومن ثم يعود من حيث أتى ودونما فائدة ترجى لطالبي العدالة . تدرون ما سبب هذه الضجة المفتعلة حول نجل الرئيس أو الطعن بقانونية الحصانة ؟ الاجابة تتعلق بسلطة العدالة الغائبة والمفقودة على قائد الحرس او سواه من الرؤوس الكبيرة المعنية بقانون الحصانة .
النائب العام للجمهورية ظل طوال سني عمله مخلصا وتابعا للسلطة التنفيذية لكنه وحين اراد تحقيق العدالة وفي سابقة تعد الاولى في تاريخ المنصب الرفيع تم اقالته بقرار رئاسي وبالطبع هذه الاقالة سبقها ضغط وترهيب كي يعلن استقالته ، كيف ولماذا ومتى كان للنائب العام سلطة ومهابة واحترام من رأس الدولة او الامن القومي او السياسي او المركزي او الداخلية او الدفاع او القبائل ؟ .
الرئيس الامريكي بيل كلينتون عاش كابوسا أسمه " كيث ستار " فلطالما ايقظه هذا النائب العام من نومه فزعا قلقا وهو الرجل القوي الذي يجلس على ناصية حكم العالم ، لقد عاش ليال سود كئيبة في قصره البيضاوي ، اعترف وقتها بان النائب العام وقتئذ كان اشبه بكابوس ثقيل نغص منامه وسبب له الارق والخوف ، فمنذ حنثه لليمين في قضية تحرشه بموظفة البيت الابيض " مونيكا ليو بنسكي " والرئيس المسكين يلاحقه المحقق المزعج ولدرجة اضطرته لتعاطي المسكنات علها تفلح بطرد صورته واسئلته من ذهن حاكم يخشاه كل حكام المعمورة كما وتحت امرته اعظم قوة عسكرية في التاريخ .
فما من ديمقراطية حقيقية تأتي بغتة ومن صناديق اقتراع ! وما من حرية وشفافية ومساواة ونزاهة تأتي من الفراغ او لمجرد الرغبة ! وما من تنمية واستقرار وتوحد وتعايش وانتاج ونهضة وازدهار إلا وتكون العدالة منطلقه وحركته وغايته ! وما من تخلف وفقر وظلم وتمزق وجهل وصراع وبغض وتمييز وارهاب وعنف طائفي او عرقي او قبلي او مناطقي او ايديولوجي او ديني إلا وسببه الرئيس والمباشر غياب العدالة الحقة المجسدة لروح المواطنة الواحدة المتساوية .
وإذا كنا اليوم في خضم حوار وطني غايته ومبتغاه الدولة الديمقراطية العادلة ؛ فإنه ينبغي علينا جميعا ألّا نضيق أو نحبط أو نجزع من الاصوات العالية المطالبة باستعادة دولة الجنوب أو بحل ومعالجة قضايا تهامة وصعدة وتعز والمهرة وحضرموت وحتى مطالبة المهمشين السود إذا لم أقل الاقليات الاسماعيلية واليهودية ، فهذه الاصوات المخيفة للبعض ليست إلا دلالة وبرهان لفقدان العدالة واختلال ميزانها خلال الحقبة المنصرمة .
كما ويعد بروزها في مؤتمر الحوار ظاهرة ايجابية وصحية لا تستوجب القلق والخوف بقدر ما يستلزمها تحقيق مبدا المواطنة المتساوية باعتبارها اساس واصل الدولة والحكم والقوة والنهضة والتوحد والتنمية والشراكة ووووالخ من المفاهيم والقيم العصرية والمدنية والانسانية التي يستحيل انجازها في ظل دولة مجتمع يعاني شتى صنوف التمييز والاضطهاد والاستبداد والاقصاء والتهميش والخوف والقمع والانقسام والاستئثار .
نعم ؛ فلو ان في هذه البلاد دولة ديمقراطية عادلة ؛ لكانت هذه النزعات الفئوية الضيقة غائبة في مجمل العملية الحوارية ، لكننا للأسف لم نقم دولة ذات سيادة ونظام حتى ننشد من هذه الدولة تجسيد العدالة على كافة مواطنيها ، وحتى – ايضا – يكون حديث اعضاء مؤتمر الحوار جله منصبا في مشكلات وقضايا اخرى غير الجنوب وصعدة وتهامة وشكل الدولة والهيكلة وغيرها ، وبما ان الدولة مازالت وظيفتها مفقودة ؛ فلا معنى إذن لخشيتنا مما يثار ويقال في مؤتمر الحوار ، فعلى العكس من ذلك يجب ان يفزعنا غياب العدالة في الدولة المنشودة .
فواقع الحال يؤكد حاجتنا الماسة لحضور العدالة وفي مطلق النقاشات والمطالبات والافكار والتصرفات ، وعندما نشير الى ضرورة احقاق العدالة بكونها جوهر كل الصراعات والنزعات والمعاناة والانقسام والفساد ؛ فلأننا نعلم وندرك حقيقة المعضلة المزمنة المنتجة لكل هذه الظواهر السلبية المصاحبة لمؤتمر الحوار ، فلا يوجد اضطراب وعدم استقرار سياسي او انقسام وتناحر مجتمعي ؛ إلا وخلفها جميعا فقدان العدالة !.
المحامية شيري بلير عقيلة رئيس وزراء بريطانيا الاسبق حين انتزعت حكما من محكمة استئناف بريطانية قضى بإعادة فتاة مسلمة " شابينا بينغوم " الى المدرسة التي منعت فيها التلميذة من دراستها بسبب ارتدائها الحجاب ، وقتها لم يغضب زوجها وهو على رأس الوزارة ؛ وإنما هاتفها مهنئا انتصارها في قضية رأي عام داعيا اياه الى عشاء احتفاء بالحكم ، نعم بعث تهنئة وعمل حفلة ؛ لأنه بالفعل لا سلطة له على القضاء .
نحن لدينا قتلة وفاسدين ولصوص من العيار الثقيل ، وبرغم جرائمهم طلقاء احرار ، فلا سلطة للقضاء الفاسد الضعيف على هؤلاء القتلة والفاسدين ،مثلما هو سلطانه على الضعفاء والابرياء الذين يحكم عليهم ظلما ولمجرد شبهة سياسية صاغها الامن القومي او السياسي ، فليس عبدالكريم لالجي المفرج عنه مؤخرا وعبدالخالق شائع القابع في سجنه سوى غيض من فيض العدالة المختلة القواعد والاركان .
فما لم تكن هذه العدالة غاية الحوار والمتحاورين ؛ فلا معنى للدولة والحكم الرشيد والهيكلة ! وما لم يكن سلطان النائب العام ورئيس القضاء وقاضي المحكمة فوق سلطان الرئاسة والحكومة والبرلمان والامن العام والقومي والسياسي ووزير العدل وشيخ القبيلة ؛ فلن تقم للدولة قائمة كما ولا فائدة ترجى في حوار او انتقال أو دستور أو انتخابات أو احزاب او تنمية واستقرار أو غيرها من الوسائل والادوات والمفاهيم العصرية ! ففي النهاية تبقى الدولة العادلة محور اساس تدور حوله مجمل العملية السياسية والاقتصادية والفكرية والوطنية والديمقراطية والشخصية .
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها