نزار قباني مبشراً بمستقبل العرب
في لحظات الصمت واليأس والإحباط أمرُّ على بعض القصائد لعلي أجد فيها قبس من نور هؤلاء المجانين الذين كتبوا لنا الشعر وصوروا لنا الواقع كما يرونه بأعينهم، و رسموا لنا المستقبل وكأنهم ينقشون خرائطه التي نراها رأي العين اليوم، ونقرأها في أشعارهم بعد رحيلهم بعقود.
أذهب للشعر المترجم لكنه لا يروي من ظمأ فليس فيه من روح المتنبي وامرؤ القيس والبردوني ونزار وعبد الرزاق عبد الواحد ومحمود درويش. لا أفضل عندي من شعر الغزل، فهو في النهاية متعة وتسلية وكلمات وروح وحب ولغة، لكن الشعر السياسي يظل نافذة لفهم قواعد اللعبة القذرة من منظور شعري صرف.
تركت لافتات أحمد مطر باب الخيال مفتوحاً لديَّ، لكنها بطبيعتها لم تترك إجابات عن المستقبل، فجلد القادة والحكام يبعث على الإحباط بعد الحماس وهو شعور لا أسوأ منه، فكمية الإحباط التي ينقلها لك الشعر السياسي تعادل كمية الإحباط التي تنقلها القنوات الإخبارية مجتمعة وهي التي تطاردك ب (حدث انفجار) و (اندلعت الاشتباكات) و (أعداد القتلى والمفقودين والمشردين في تزايد جراء الإعصار)، ويالها من أهوال تقتحم علينا الغرف والخلوات على شكل عواجل و جاءنا مايلي.
في الشعر السياسي لنزار قباني -وهو ليس كله موضع بحثنا، فقط اخترنا أبيات من قصيدة- تجد مع كل ألم أمل يبعثه في أخر القصيدة أو في أحد أبياتها، تنبؤات بالأحداث والمستقبل.
وقبل الخوض في القصيدة، نخوض في تساؤل مشروع لماذا ذكر القرآن الكريم (الشاعر) في وصف قريش للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا كانوا يصفونه بالشاعر؟ كما جاء في الآية الخامسة من سورة الأنبياء (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) وفي الآية 30 من سورة الطور: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) وفي الآية 41 من سورة الحاقة:(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ)
ليس الأمر مصادفة لوصف النبي بالشاعر، فالشعر يتفق مع النبوة في الروح وفي التنبؤ بالمستقبل ويختلفان فيما دون ذلك.
لقد ظلت العرب تردد عبارة غامضة عن شيطان الشعر، إذ أنهم لم يجدوا جواباً عقلانياً فذهبوا إلى الخرافة كأقصر وأسهل إجابة لسؤال صعب. فمن الذي يخبر الشعراء عن المستقبل وليس لديهم وحي؟!
في الحقيقة ليس الشعراء وحدهم الذين يرون المستقبل فهناك الرسامين والأدباء والكتاب والمهندسين الذين يرون المستقبل قبل غيرهم، فهل معقول أن الشيطان يتلبس بهم جميعاً!؟ بالطبع لا.
الشاعر يبحث عن معنى والمعنى ليس سهلاً بدون عمليات عقلية معقدة تذهب به إلى المعنى، والرسام يبحث عن المظهر لرسم الصورة مكتملة فينتج عقله لوحات ترسم ملامح المستقبل، لكن المهندس الذي يخطط مدينة جديدة ويضع الطرق والجسور و الإشارات والإنارات والشبكات المتنوعة للمياه والصرف الصحي وشبكات مياه الأمطار وشبكات الكهرباء والهاتف والإنترنت ويرسم عقارب الساعة في الجولات يضع كل التفاصيل في خارطة واضحة المعالم، يستخدم العلم في العمليات الحسابية لكل سنتمتر يضعه على الخارطة، إنه العقل والخيال والروح والهوس والحب والجنون من يرسمون ملامح المستقبل لا الجن ولا الشياطين.
يقول نزار قباني في قصيدته (هوامش علي دفتر النكسة):
إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ
لأننا ندخُلها ..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ
لأننا ندخلها ..
بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ
وهو هنا يصف الواقع بحذافيره عندما تحدث عن العرب بعد هزيمة 67 وهو يحاكم ذلك الجيل الذي هُزم لأسباب كثيرة شرحها بكل أسىً في هذه القصيدة السياسية، ولكنه في أخر القصيدة بشر بالربيع الذي سيأتي، لقد تنبأ بالربيع العربي وبالجيل الذي سيخرج في هذا الربيع المنتظر، وقد وضع شروطاً لهذا الجيل الثوري الذي تخيله فقال:
نريدُ جيلاً غاضباً ..
نريدُ جيلاً يفلحُ الآفاقْ
وينكشُ التاريخَ من جذورهِ ..
وينكشُ الفكرَ من الأعماقْ
نريدُ جيلاً قادماً ..
مختلفَ الملامحْ ..
لا يغفرُ الأخطاءَ .. لا يسامحْ ..
لا ينحني ..
لا يعرفُ النفاقْ ..
نريدُ جيلاً ..
رائداً ..
عملاقْ
هذه الأوصاف مجتمعة لا تنطبق على هذا الجيل أو بعضاً منها وقد تنطبق مجتمعة على أفراد معدودوين، فهل يستطيعون تحقيق ما تنبأ به نزار قبل عمر جيل وعقد من بزوغ ربيعهم؟ لقد أجابت الموجة الأولى من الربيع العربي على بعض هذا السؤال، وهاهي الموجة الثانية من الربيع تجيب على بعضه، والأيام كفيلة ببقية الإجابة
للشاعر إلهام يتجاوز الزمان والمكان والأعمار والأبصار، ونزار الشاعر العروبي لم يكن قُطرياً كحال جيلنا، فهو من الجيل الذي خرج في وجه التقسيم والاحتلال والكفاح، في عصر الشعور المتضخم بالعروبة، وبالمساحة لكل هذه الأقطار والأصفار المتجمعة علي الشمال، فمن التمزيق الممنهج للعرب منذ سايكس بيكو في سنة 1916 وحتي هزيمة 1967، والتي سميت مجازا نكسة، كان الشعور الواحد للعرب بقوميتهم وقضيتهم الواحدة، بعكس جيلنا القُطري كل قُطر يشعر بوجعه مع عواطف يبثها هنا وهناك، فها هي قد ارتفعت موجتها مع بزوغ الربيع العربي من تونس الخضراء، ولذا خاطب نزار جيل النصر “بالأطفال" الذين سيتربون على معاني قصائده السياسية:
يا أيُّها الأطفالْ ..
من المحيطِ للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمالْ
وأنتمُ الجيلُ الذي سيكسرُ الأغلالْ
ويقتلُ الأفيونَ* (والقات) في رؤوسنا ..
ويقتلُ الخيالْ ..
يا أيُها الأطفالُ أنتمْ -بعدُ- طيّبونْ
وطاهرونَ، كالندى والثلجِ، طاهرونْ
لا تقرؤوا عن جيلنا المهزومِ يا أطفالْ
فنحنُ خائبونْ ..
كان يستلهم كشاعر خائب في جيل خائب أن ربيعاً سيأتي يبدد هذه الظلمات والكرب التي حلت بالعروبة والعرب، لقد ذهب إلى ماذهبت إليه الأمم السابقة التي تخيلت عودة موسى كما في تراث اليهود، أو نزول المهدي في تراث المسلمين، أو عودة علي بن ابي طالب كما هو الحال عند بعض فرق غلاة التشيع، ما يميز نبوءة نزار عن تراث ونبوءات المذاهب هو أنه لم يؤمن بقدوم منقذ فرد بل جيل منقذ، كالجيل الذي ظهر مع صلاح الدين ونسيه التاريخ المزيف الذي يسطر تاريخ الفرد و يستبعد جيله. فقال مخاطباً الجيل الذي سيتربى على صناعة النصر:
يا أيها الأطفالْ:
يا مطرَ الربيعِ .. يا سنابلَ الآمالْ
أنتمْ بذورُ الخصبِ في حياتنا العقيمهْ
وأنتمُ الجيلُ الذي سيهزمُ الهزيمهْ …
ومازال في هذا الجيل من سيهزم الهزيمة من الجزائر إلى صنعاء مروراً بالقدس ودمشق والقاهرة وتونس وطرابلس وكل المساحة الواقعة بين المحيط و الخليج.
أنا أؤمن بنبوءة الشعر والفن والرسم والخيال، ولا أؤمن بهرطقات الساسة عديمي الخيال والرؤية، من لا يمتلكون الجُرأة على وصف الواقع كما هو فهم في الأصل عميان عن المستقبل، وليس لديهم سوى التبرير لجماهيرهم العمياء.
*)كلمة (القات) من إضافة الكاتب وليست من النص الأصلي للقصيدة.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها