"رَبوع"
"أغلب العالم مجانين ، ومن ليس بمجنون فهو غاضب ، ومن ليس بمجنون ولا بغاضب ، فهو غبي فقط" بوكوفسكي
بعد مشوار صباحي مضنٍ وبلا إفطار، جاء وقت الغداء والجوع يمارس رقصة التانغو والتي يقول عنها ماريو بينيديتي: "أنها رقصة العناق الأولى في التاريخ والتي تسمح بالتدرب فوق قمم ومنخفضات الجسد الآخر"، سألني رفيق المشوار إياه، أين نتغدى قرر الأن فنحن على مفترق طرق؟ كل القرارات سهلة عندي إلا قرار الأكل التشاركي فإنه يكلفني التفكير بمن سيتناول معي الطعام، ما ذوقه؟ و ماذا يفضل؟ و كثير من هذه الأسئلة العدمية ، لو كنت وحدي فلا أسهل من تناول قطعتي خبز تنتصفهما بيضتان أو بطاطا من قاع جهران، وبعد تردد دام لثوان قلت له اتجه يمنياً سنذهب لتناول "السلته".
دلفنا من البوابة الجانبية للمطعم في ركن الحارة التي نقطن فيها، وسارعت إلى نافذة المطبخ وسألت الطباخ :" باقي لنا حلبة من إللي جابها صاحبي قبل أيام؟" قال: " لا خلصت! "، "خبير كيف خلصت الحلبة ولم تقدمها لنا مطلقا طوال الأسبوع؟!"
ابتسم الطباخ الشاب، وسرعان ما تذكرت أن عمال المطعم من عشاق الحلبة، لكن لسوء حظي وحظهم أنهم يعملون في مطعم قررت إدارته أن لا تقدم الحلبة مع السلته بحجة أن الحلبة غير مطلوبة لدى زبائن هذا المطعم، هذه الحجة المغلفة بالغبار غير صحيحة البتة، فمنذ ست سنوات يتم ترديدها كلما طلبنا حلبة في هذا المطعم، الحلبة غالية لا، الحبة مضرة بالصحة لا، من يديرون المطعم لا يتناولوا الحلبة لا، مله جعلهم حلبة..
خرجت غاضباً برفقة صديقي، راحت علينا رقصة التانغو والحلبة، أه ياسين والحلبة، بلاش منه الحلبة نحن في بلد الوجبات السريعة و أقرب مطعم هو "صبويه" الذي يقدم سندوتشات التونة بالجبن والسلطة والمخللات، وأمام المول الذي يقع داخله المطعم كانت الشاشات الالكترونية فوق البوابات تشير إلى عدم وجود مواقف سيارات، حصل خير لنغير "الخورة" ونتجه إلى أقرب مطعم يمني، خلف الجامعة يقع مطعم يمني يقدم الكباب والفول والفلافل، وقده يقع صبوح وغداء مع بعض على رأي الفقهاء (جمع تأخير)، لا زحمة أمام باب المطعم ما الذي يجري هنا؟!
أخبرنا العامل الوحيد الذي يقف هناك أن المطعم مغلق بسبب إجازة الطلاب، عن أي إجازة يتحدث الشاب؟ اليوم سبت أكيد إجازة نهاية الأسبوع، قال :"لا الإجازة السنوية للجامعة وسيفتح المطعم بعد شهرين!"
لا حلبة ولا تونة ولا فول أكيد في حاجة غلط!
أخذنا المنعطف يساراً واتجهنا نحو مطعم يمني يقدم العصيد لا يوجد غير العصيد في الأوقات الحرجة، بمجرد الاتجاه يساراً قلت أكيد لهذا اليسار ما بعده، ولم أخبر بذلك صاحبي الذي لا يدرك ماذا يعني في القاموس المشي شمالاً، الحمد لله المطعم مفتوح وفي زبائن يتناولون العصيد، وعندك نفر عصيد يا ليد و نفر فحسة مع السلته و الحلبة ، حان وقت الانتقام يا مطعم الوجبات السريعة، العصيد مع اللبن وجبة قروية مفضلة تفوق العصيد مع المرق بمراحل، مر بنا صديق لا يعلم بحالنا منذ بدء وقت الظهيرة حتى ميل الشمس نحو الغروب في عصر هذا اليوم المكفهر،" تعال يا حبيب اخوالك يحبوك"، قال:" طيب باقي لي صديق"، قلنا : "هاته وتعال"، أضافا طلبهما وجلسنا أربعتنا نشرب الشاي بعد الغداء، وكان حديثنا حول بني حشيش وطوق صنعاء من قبائل الأبناء ، تتعالى وتنخفض الضحكات، صارت البلد من كثر الوجع ضحكة كبيرة !!!
أخذت الكرت الذي وضعه الجرسون على الطاولة وتسللت نحو المغسلة غسلت يدي، وعدت إلى المحاسب أعطيته الكرت، طلب المبلغ الذي كان متبقيا في جيبي كاملا! الحمد لله لم يعرضني للإحراج، وعندما سألته عن الفاتورة سرد لي القائمة لقد ضم طلبنا وطلب الأصدقاء معا في نفس الفاتورة، قلت :" له أحسنت وبارك الله فيك"، سلمت عليهم وانصرفت مع صديقي وقلت للأصدقاء كنتم ضيوفنا تبادلنا الابتسامات ، و خرجنا نحو مقهى قريب نستظل من حر هذا اليوم ومشقته وجوعه، وفي المقهى قلت:" لصديقي اطلب لي كابتشينو واطلب لك ما تريد وادفع الفاتورة أنت.. انا تقريباً فلست في المطعم" ، نزل الطلب، قلت أروح الحمام ولتكن الجلسة طويلة إلى ما شاء الله.
خرجت وصاحبي مبتسماً، وأخبرني :" لقد جاء العامل ونظف الأرضية تحت الطاولة ولمع الطاولة" ، وأنا أقول:" بارك الله فيه هو يعرف حبي للنظافة" ، قال :" لا حبك ولا حبي، لقد اندلقت القهوة على الأرض عندما وضعت الكمبيوتر على الطاولة، و قد غيرنا الطلب" ، التفت إليه قائلا: " أنا قلت لا تخرج معي بدون ما تغتسل! كله منك أدبرتنا، لو كان الدبور عندي لن تندلق القهوة على الأرض و أنا في الحمام، أنا مصر أنك دبور، اليوم سبت لو كان أربعاء لقت " ربوع" على قرنك وقرن أبوك - كما يقول أصدقاؤنا في البيضاء - " ، كنت اتمتم واغتاب صاحبي في نفسي وهو قابع أمامي منهمكاً بالنظر إلى شاشة الكمبيوتر، غاظتني ضحكته، قلت له:" ما المضحك في الشاشة يعلم الله من هي تضحكك؟ يبدو أن "السيلكت" Select كان موفقاً" ، أدار الشاشة نحوي قائلاً:" مشى معي كود البرنامج" ، قلت: "هنيت" لك أنت و هو."
وقبل خروجنا من صلاة المغرب في الجامع المجاور رأيته يدور بين المصلين، "خبير معانا مشوار والناس منتظرين"، قال:" اشوف صديق دوماً يصلي هنا"، قلت :" له تباً وسحقاً لك و لصديقك"، قال :" أنا لست أنت لازم تلاحظ هذه النقطة، أنت تتخلى عن أصدقائك في لحظات، أما أنا فلا".
قلت له :" أنت محق فعلاً "، ودارت في خاطري كلمة "ربوع" البيضانية وتوابعها..
لم يكن يوماً سيئاً كما قد يتخيل البعض فقد انجزنا الكثير وخرجنا من "ربوع" البيضاء و التقينا بمنجم من رجال المستقبل ، ربما أحدثكم عن هذا المنجم اليمني لاحقاً.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها