جغرافيا حية!
ما إن تستجمع قواك بعد يوم طويل من الذهاب في كل الطرق المؤدية إلى المجهول، تعود إلى عزلتك المفضلة عن العالم، تلتقط بعض الصور وشيئا من أنفاسك، ورغيف خبز مجمد في الفريزر، ليس لذيذا بما يكفي لتناوله لكن الكسل ألذ، يزعجونك برسائل لا تحمل قيمة أو معنى فتصمت محتسبا أجر اللاغضب، وتأوي إلى فراشك حيث تتوزع كافة المهام على جوانبه..
تقفز إلى ذهنك أعمال الغد، الخارطة الإلكترونية التي ستمضي بعدها الصباح ترتسم في ذهنك الآن مع تفاصيل الصوت الصادر عن نظام الخرائط، تتذكر وأنت ترسم خارطة الوطن في الزمن الماضي بالقلم الرصاص وتوزع ألوانها الحمراء والزرقاء والصفراء كما وضعت في مقرر الجغرافيا الميت.. سبحان من يهدي إلى إحياء الخرائط وهي رميم..
الجغرافيا لم تكن يوما ما ميته إلا أن تلك الكتب أُريد لها الموت، حتى لا يرتبط الواقع بالخرائط ولا ترتبط حركة الناس وفقا لقواعد الجغرافيا، مع أنهم يذهبون ويأتون وفقا لخرائط ذهنية مرسومة في العقل الباطن..
تتيح لك خرائط الثري دي رؤية العالم زنقة زنقة دار دار، تتفحص المنازل في الطرف الأخر من العالم تنظر إلى الشرفات وتدرك أن غيرك ينظرون عن بعد إلى داخل تلك الغرف متجاوزين الجدران الهشة أمام الأشعة الحمراء، لم يعد هناك خصوصية لأحد، ولا حتى لأولئك النفر الذين يمارسون الحياة والحب في الظلمة، مادام أن في عروقهم يسري الدم، وفي أيديهم هواتف ذكية، فمقاسات ملابسهم الداخلية باتت معروفة لمصممي الملابس، وراسمي السياسيات، وبائعي الفيتامينات المكملة المدركين أن الأجواء الحارة والباردة على مستوى العالم تمكنهم من تسويق فيتامينات دي3 التي تمنح المغفلين تعويضا عن أشعة الشمس.
لم يعد بعد اليوم العالم قرية صغيرة، فالقرية مترامية الأطراف ويصعب على الثيران حرث أراضي الفلاحين كلها في ساعة واحدة، لقد تحول العالم إلى مزرعة صغيرة تكفي أن يحرثها ثور أشعب في ساعة واحدة، وفي الساعة الأخرى يقوم بتلقيح كل أبقار المزرعة على دفعة واحدة آليا، أو على دفعات دون ملل، فالكثرة صارت محفزة كما تقول دراسات" 3 سم".
لله في خلقه شؤون، وللسحب أيضا عيون تهمي طوال الليل المكتظ بقصص المستقبل، حيث لا ماضي هناك ولا ذكريات، ومع توسع ذاكرة الخزن بشكل يفوق الخيال، لكن ثمة معلومة غير منضبطة تقول كلما اتسعت الذاكرة ضاعت ملفات الأحداث.
ما بال هذه الثقوب السوداء قد انتقلت من المجرة إلى السرير! (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) هكذا يقول الله، ويحدثك الكون أن الثقوب السوداء تملأ هذا الكون والسرير أيضا.
يحارب تجار الدنيا بتجار الأديان المزيفة على رقعة واسعة من هذا العالم، الدماء تسيل وأكثر منها يسيل لعاب الفجار، فكل قتيل عندهم فرصة، وكل قاتل فرصة، فهذا العالم يتجه إلى قعر الجحيم بحثا عن الفرص القذرة، يسمح هؤلاء التجار بمحو مدن الصفيح والتراب والخشب من على الخارطة، إذ أنه لا يوجد لتلك المدن الفقيرة خرائط تقريبية، كما هو حال مدن الأبراج العالية، مازالت مدن المعدمين بلا عناوين واضحة، فلذا محوها من منظومة الخرائط متاح للغاية، يهتز العالم من إنفجار "طماشة" بجوار ناطحة، لكنه لا يتحرك لإنفجار هيروشيما من جديد، فكل خرائط الفقراء تشبه هيروشيما، وكل الفقراء في هذا العالم يابانيون قدماء قصار القامات وقبيحة وجوههم "شورت أند أجلي" ..النساء والأطفال والكلاب المشردة على حد سواء.
بعد قليل تشرق الشمس وتعمل الخرائط ثانية وتصدر أصواتها بكل اللغات الحية، ثمة نسخة عربية من أصوات تلك الخرائط، لكنها تبدو غبية كغباء ترجمة القصائد الإغريقية إلى لغة الضاد.
ما دمنا لا نعلم الغيب فلتأخذنا الجغرافيا إلى هناك.. من يدري ربما نجد أنفسنا.. لكن هذا ليس مضمونا البتة بعد عناء يوم ممل كسابقه.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها