تهريب الحاضر والمستقبل مع تدمير الماضي
مقلقة جداً لديّ صارت كلمة “التهريب”, فأخبارها تتصدر باستمرار اهتمامات الإعلام اليمني وتفرد لها وسائل الإعلام الخارجية مساحات مهمة في تناولاتها وتغطياتها, وقلقها لا يقتصر على تهريب الخطر والمال والتاريخ والبشر من اليمن إلى خارجها والعكس.
ولكن حتى أخبار ضبط مايتم تهريبه يضاعف قلقنا, ويؤكد أن ما يمر ويتسرب إلى الداخل اليمني أو يذهب إلى خارج اليمن ولا يتم ضبطه قد يكون أضعافاً مضاعفة, وهذه حقيقة مستعد أن أخوض الرهان مع أي أحد يرى غير ذلك.
لنبدأ بآخر خبر كان سبباً لأن أكتب عن هذا الموضوع في مقالي هذا الأسبوع, وهو الخاص بضبط السلطات الأمنية بمطار صنعاء 1500 قطعة أثرية كانت في طريقها للتهريب الى خارج اليمن خلال عدة سنوات, ووحده الخالق عز وجل يعلم حجم ما تم تهريبه خلال الفترة نفسها عبر منافذ البر والبحر والجو على امتداد الأرض اليمنية بما فيها مطار صنعاء ذاته.
عصابات وشبكات وأطراف محلية وإقليمية ودولية تعمل دون كلل أو ملل على تهريب السلاح والمبيدات والمخدرات والارهابيين ومرتزقة وعناصر إجرام ونصب واحتيال, إلى داخل اليمن.
وفي المقابل يتم التهريب من داخل البلاد إلى خارجها للبشر, أطفالاً ونساءً ورجالاً وأفارقة.. وغيرهم, وأيضاً تهريب الأموال (لطشه) اللصوص إياهم من ثروات البلاد وشعبها إلى البنوك الأجنبية, وكذلك تهريب الُلقى والقطع الاثرية والمخطوطات.
ذهاباً وإياباً, شعبنا خسران وبلادنا تتعرض للأخطار, فمقابل تدمير الماضي العريق والتاريخ والحضارة وتهريب هويتنا وعنواننا من آثار ومخطوطات تعاني مواقعها إهمالاً وتخريباً, وتهريب الإنسان اليمني لأغراض شتى, منها بيع الأعضاء البشرية أو التسول أو العمل أو ما هو أقذر, ويصل إلينا السلاح والسموم والمخدرات لتدمير الحاضر والمستقبل.
لا يقتصر الأمر على ذلك, ولا يقف عند تهريب الأدوية والمواد الاستهلاكية الغذائية التي تكون بمثابة سموم خطرة لأسباب تتعلق بصلاحيتها زمنياً أو من حيث المواصفات والمقاييس أو سوء التخزين والنقل, بل إن بلادنا – للأسف الشديد - تعد مجرد مقلب لقمامة العالم، ابتداءً بالملابس والمفروشات والسيارات والمركبات، وانتهاءً بأجهزة الحاسوب والتلفون والكهربائيات.. وغيره.
حتى شهادات الجامعات تتعرض للتزوير والتهريب أيضاً, ومع الصلاة على النبي الكريم, فإن آخر فضائح أحد جهابذة الفساد الجامعي هو الكشف عن 700 شهادة من جامعة ذمار هربت عبر مكتب وهمي.
ليس ذلك بسبب أننا شعب غبي, حاشى لله, بل لأننا سمحنا للجهلة والمزورين والنصابين وعديمي الوطنية والأخلاق والضمير يديرون حتى الجامعات.
ولأن التسرب لفظ يشبه التهرب, نجد البلاد تفقد أنبل أبنائها وأذكاهم والمتميزين منهم والمبدعين, حيث يتسربون مهاجرين أسراباً الى دول الجوار.. وغيرها, ليعملوا في جامعاتها ومستشفياتها وشركاتها.
ما يبقى لنا داخل الوطن أصنافٌ ثلاثة: المتردية والنطيحة من شريحة النخبة الحاكمة والمثقفة والتقنية والمهنية, أو متفوقون ومتميزون يصيبهم مرض السياسة والتسلق الحزبي والتسابق الوظيفي ويحرقون لأجل ذلك مهنيتهم وعلمهم وربما كرامتهم وضمائرهم وأخلاقهم.
صنفٌ ثالث يبقى في الوطن, قد يكونون متفوقين أو مبدعين, لكنهم يتآكلون باستمرار ويذبلون وتموت أحلامهم وقدراتهم مرضاً أو وظيفياً أو جنوناً واكتئاباً نتيجة تكاتف عوامل الإهمال والإقصاء والظروف المعيشية الصعبة على حياتهم.
وطننا متخم ببشر يستحقون نخبة تحترمهم وتطلعاتهم وأحلامهم وآمالهم وطموحاتهم وتحسن إدارة قدراتهم المعرفية والعلمية والعملية ومواهبهم وإبداعاتهم.. اليمنيون بأمس الحاجة لنخبة حاكمة تكون قدوة في الأداء والنزاهة وحماية الوطن والمواطن من أخطار التهريب من وإلى اليمن وتعطيهم الثقة بمواطنتهم وإنسانيتهم وسيكونون سداً منيعاً ضد الأخطار التي تهدد الحاضر والمستقبل أو التي تدمر الماضي وتقضي على التاريخ والهوية والحضارة، جنباً إلى جنب مع القيم والأخلاق والولاء الصادق للوطن، بعيداً عن أي تعصبات حزبية ومناطقية ومذهبية وقبلية.
وهم أيضاً بحاجة لنخبة مثقفة وإعلامية تحترمهم وتطلعاتهم وتعيش مع أحلامهم وهمومهم ومشاكلهم وتطلعاتهم البسيطة بدلاً عن العيش في أبراج من الكبر والغرور, نخبة تكون قدوة في الوطنية والمواطنة ونبذ العصبيات، وحينما تصل للمناصب وتتحمل المسؤوليات في المؤسسات العامة والخاصة.
باختصار، شعبنا بحاجة لنخب حاكمة ومثقفة لاتغرد خارج سرب الشعب ولا تقدم مصالحها الشخصية والحزبية والمذهبية والقبلية والمناطقية على مصالح الوطن والشعب عامة.
حفظ الله يمننا الغالي وشعبنا العظيم من أخطار التهريب وفواجع التهريب الآخر, وخفف عنه شر التسريبات الإعلامية خيرها وشرها وكف عنا تسرب الكفاءات والكوادر أو القيم والأخلاق.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها