من يصنع دساتيرنا؟!
عندما يغيب المشروع الوطني المتكامل، ويتحول الوطن إلى مجرد مشروع قابل للمساومة على كرامته ومصالحه، يطمع الخارج بالتدخل ليأخذ ما يريده، بل ويزيد أكثر فيعيد صياغة حياته السياسية، كما يريد، وهو ما يحدث بجلاء اليوم؛ حيث تسربت مسودة لدستور اقترحته روسيا ل«سوريا الجديدة»، التي تتشكل بعد خمس سنوات من الحرب، ويبدو أن النظام السوري لم يعد قادراً على رفض أية رؤية روسية، بعد أن تحول إلى رهينة في يد القيصر فلاديمير بوتين، الذي ساعده في الوقوف على قدميه.
المسودة الروسية للدستور السوري الجديد، تتضمن قضايا داخلية عدة تمس صلب وجوهر النظام، وأهمها «إزالة تعابير تشير إلى عروبة الجمهورية السورية، واستبدالها بمصطلحات تشدد على ضمان التنوع في المجتمع السوري».
تقترح المسودة أن «تكون الجمهورية السورية دولة مستقلة ذات سيادة وديمقراطية، تعتمد على أولوية القانون، ومساواة الجميع أمام القانون، والتضامن الاجتماعي، واحترام الحقوق والحريات، ومساواة الحقوق والحريات للمواطنين كافة دون أي فرق وامتياز»، بل أكثر من ذلك اقترحت «إمكانية تغيير حدود الدولة عبر الاستفتاء العام»، إضافة إلى «اعتبارها للغتين العربية والكردية متساويتين في أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته».
وتقترح المسودة الروسية منح مجلس الشعب (البرلمان) صلاحيات لم تكن ممنوحة له في الدستور المعمول به حالياً، من بين هذه الصلاحيات إقرار مسائل الحرب والسلام، وتنحية رئيس الجمهورية من منصبه، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وغيرها من القضايا التي كان محرماً المساس بها أو الاقتراب منها.
نموذج ما يحدث في سوريا يمكنه أن يحدث في دول عربية أخرى، فحين يغيب المشروع الوطني الشامل، يحضر العامل الخارجي ليكون اللاعب الرئيسي في المشهد الداخلي، وعندما بدأت الاحتجاجات الشعبية في عدد من البلاد العربية تحت يافطة ما يسمى «الربيع العربي»، استنفرت بعض الأنظمة جهودها، للقضاء على هذه الثورات والرغبة في التغيير لدى شعوبها لجعل هذه الشعوب تتمنى العودة إلى الماضي، والكفر بالثورات وقتل الرغبة في التغيير والاستسلام للظروف التي تعيشها.
لقد تم تدمير سوريا، تماماً كما حدث في العراق وليبيا واليمن، تحت شعار عدم السماح بإسقاط الأنظمة، مع أن كل الممارسات التي أقدمت عليها الأنظمة دمرت الإنجازات التي حققتها، ودفعت بالأجنبي للتدخل وفرض خياراته، مع أنه كان بالإمكان بقليل من التنازل، أن تقل تكلفة المواجهات وحصرها في حدها الأدنى، وعدم السماح للأجنبي أن يتدخل ويصيغ دساتيرنا، ويحدد ماذا نأخذ وماذا نترك.
لو أن الأنظمة العربية ومعارضيها، الذين تصدروا لمشروع التغيير، التقوا عند منتصف طريق يحافظ على الإنجازات، على قلتها، لكانت حال البلاد العربية أفضل مما تعيشه اليوم، ولما رأينا هذا المشهد من القتل والدمار والخراب والتشريد.
لقد قدم العرب- أنظمة ونخباً سياسية على حد سواء- بلدانهم إلى الخارج على طبق من ذهب، بالسماح لهم بالتدخل في كل شؤونهم، وها هو الخارج يجردنا اليوم من عروبتنا، وغداً سيجردنا مما تبقى لنا من كرامة.
ـ الخليج الاماراتية
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها