الدولة والميليشيات لا تجتمعان!
من المؤسف أن يتكرر انفلات الأمن في تعز وعدن بسبب سلطات الميليشيات المحسوبة على "المقاومة"، والتي تأتمر لأكثر من طرف، كما يتكرر العبث بحياة الناس، ويتكرر تغييب أدوات الدولة ورمزيتها الجامعة. وبالتأكيد، عندما يتكرر كل ذلك، يتكرر استعراض القوة التافهة (والمفصعة) في الشوارع والأحياء والأسواق، كما يتكرر ترويع الآمنين، والافتئات على سلطة الدولة، وتجريفها من خلال تكريس سلطات المخلين بالأرواح وبالممتلكات، وعدم التعامل معهم بوعي الدولة المأمولة. على أن هناك إجماعاً على أن ما حدث في تعز وعدن، قبل أيام، هو مجرد بروفات لمعارك مستقبلية أشد وطأة وكارثية، ما لم يتم ضبط الأمن في المدينتين بشكل جاد وحازم. كما أن هناك إجماعاً على أن الإنفلات القائم في مربع سلطة شرعية هادي هو الوجه الآخر للانقلاب، لأن كل من يعمل ضد إعادة بناء مؤسسات الدولة، ومع عدم إنهاء الملشنة القائمة قبل أن تستفحل، يصب في صالح اللاشرعية، بالمحصلة.
والواقع أن كل الأطراف المتعددة داخل شرعية هادي تبقى مشتركة في الأداء السيء للشرعية بشكل أو بآخر، بينما يتحمل هادي وحكومته مسؤولية عدم بسط ودعم سلطات الدولة - فضلاً عن عدم ضرب جماعات الإخلال التي تستهدف ضرب سلطات الدولة - في المناطق التي تتبع سيطرة قواته. ثم إنه لا بديل لأجهزة الدولة، لأن الجماعات المسلحة، تحت أي مسمى، تبقى منفلته وبدون مسؤولية ولا عقاب. والثابت أن ذهنية الميليشيا هي السبب الرئيسي للاقتتال الأهلي، الذي يفضي لضحايا أبرياء مدنيين وعزل غالباً. وأما دمج المقاومة في الجيش، قد يفضي إلى واحدية الأجهزة الأمنية، إلا أن للأمر مخاطره الكبيرة في حال تم دمج ميليشيات إرهابية .
والحال أن الواجب اليوم في عدن وتعز يحتم الوقوف ضد كل الظواهر المخلة بأمن واستقرار الحياة العامة، وعلى وجه التحديد، منع حمل السلاح واستخدامه مهما كان الأمر، إلا بترخيص رسمي وتحت إشراف ورقابة إدارة الأمن في المدينتين. ذلك وحده هو سلوك الدولة الذي سيلتف حوله الناس، سلوك الدولة المعتبرة، حين تقف بجدية أمام السياسات الخاطئة وتعالجها، ولا تنزعج من نقدها واستنكارها. بينما يبقى المطلوب على نحو عاجل تفعيل الجهات الضبطية، وتفعيل سلطة القضاء، إضافة إلى التشديد على السلطات المحلية بضرورة إقالة ومحاسبة كل المقصرين والمتسببين في الانفلات الأمني الحاصل، وبدون مجاملات أو تواطؤ من أي نوع. فالذين قاموا بمحاصرة إدارة الأمن في خور مكسر والبحث الجنائي، وضربهما بمختلف الأسلحة، مساء 13 يناير الجاري في عدن، لإخراج المنفلتين المحتجزين الذين كانوا قد حاصروا شرطة كريتر قبلها، هم مجرد بلاطجة وليسوا مقاومة، ولذا يجب الضرب بيد من حديد لفرض هيبة الدولة. كما، بلا شك، يمكن القول إن هؤلاء هم توأم بلاطجة تعز الذين أشعلوا قبلهم بيوم معركة عنيفة وسط المدينة، على إيرادات سوق ديلوكس للقات في شارع جمال.
وبحسب إدارة أمن عدن فإن "جنود الأمن داخل المبنى ردوا على مصادر النيران، لتتمدد الإشتباكات في الأحياء القريبة من إدارة أمن عدن وساحة العروض حتى ساعات الصباح الأولى". أما العناصر المسلحة المهاجمة - وهم من جماعة القيادي في المقاومة سلمان الزامكي كما تؤكد الأنباء - فقد "حاولت اعتلاء مبنى سكن طلاب حضرموت المقابل لإدارة أمن عدن للتمركز على سطحه" لاستهداف إدارة الأمن. إثر ذلك، أجلت إدارة جامعة عدن امتحانات الفصل الأول لطلاب الجامعة نتيجة المواجهات، كما أغلقت قوات الأمن - لساعات - كافة الطرق المؤدية من وإلى مديرية خور مكسر. بعدها تدخلت لجنة وساطة حكومية - ومن المقاومة أيضاً - لتهدئة الأوضاع هناك وإيقاف الإشتباكات. تدأب الميليشيات على أن تكون الوضع الطبيعي الوحيد داخل الوضع اللاطبيعي
و في تعز، حيث اشتبك أفراد يتبعون لجماعة أبو العباس مع أفراد من عصابة غزوان، طالبت شرطة تعز في بيان لها الأطراف "بالوقف الفوري لإطلاق النار ووقف أي حشود أو تواجد لمسلحين، وتسليم المتسببين للإدارة وعقاب المعتدين وفقاً للقانون". كما أكد البيان على أن "الإشتباكات التي حصلت في بعض شوارع المدينة عمل مرفوض أياً كان مصدره وأسبابه"، مطالباً "قادة الألوية برفع الغطاء عن كل المخلين والعابثين والتعاون في ضبطهم". كذلك، طالب البيان بتوفير الدعم العاجل "للأجهزة الأمنية لإعادة بنائها المؤسسي ومواجهة أي متطلبات أمنية طارئة ومعاقبة الجناة". لكن كيف يعقل أنه بعد كل هذا الدعم لشرعية هادي، مازالت عاجزة عن بناء مؤسسات عسكرية وأمنية، قادرة على فرض هيبة الدولة والحفاظ على كيانها؟
بلا شك، فإن البلاطجة يبحثون عن مصالحهم في اللادولة، وهم أولاً وأخيراً مجرد أدوات لتنفيذ مخططات لإفشال فكرة الدولة في كل منطقة باليمن. والصحيح أن هناك أخطاء من قبل الأمن في المدينتين، لكن مهما حصل يظل وجود هامش للدولة أفضل من لا دولة، وهذا مايؤمن به العقلاء من المواطنين والمراقبين. وفي تعز مثلما في عدن أيضاً، تبقى غالبية المواطنين ضد تلك التصرفات الهمجية، وتحديداً مع إنفاذ القانون والنظام تحت إشراف الشرطة والأمن العام، لأنهم لن يحتملوا مزاج المليشيات الخاصة، مهما كانت الذرائع والمبررات. فالميليشيات لا تنتصر للدولة وللمواطنة أبداً، لأن كل ميليشيا تقوض رمزية الدولة وتنتج الفوضى المجتمعية فقط، ثم حين تتكرس السلطات المتعددة في حالة اللادولة، تتعدد إرادات الميليشيات بالمقابل، بينما كل ميليشيا ترى أنها الأجدر بأن تكون فوق الدولة وفوق المجتمع معاً.
على أن الشعب سيظل يتوق إلى الدولة الضامنة التي فوق الجميع، الدولة التي تحتكر السلاح ويسودها القانون العادل. والثابت أن الرضوخ لمسعى اللادولة لا يعدو كونه مهزلة ممنهجة - إذا جاز التعبير - تكشف التهافتات المصلحية للعمل الفصائلي المزاجي، بغاية تشويه المقاومة، وتجريفها من الداخل، على أيدي "مفصعين" لا يحترمون رمزية الدولة أساساً، إضافة إلى تكريس تذمر الناس من الفشل المستمر في استعادة أدوات الدولة، وترك جماعات السلاح المنفلت على هواها فقط؛ هواها المتطرف الذي ينطوي على احتقانات مناطقية أو نوازع ترهيبية مفتوحة... إلخ. لكن الواضح أن هناك تخاذلاً رسمياً من قبل هادي وحكومته عن مساندة السلطات المحلية في تعز وعدن، لضبط الأمن وفرض هيبة الدولة، والحد من كوارث السلاح المنفلت، ما يعني التصميم المسبق على إهدار التضحيات المشهودة التي قدمت لدحر الميليشيات الإنقلابية عن المدينتين، وبالتالي الإبقاء على بؤر العنف وعدم الإستقرار، وتداخل الإختصاصات داخلهما، وباسم الشرعية أيضاً، وهذا هو الأخطر.
لطالما حذرنا من استمرار هذا الخلل، الذي يريد أتباعه - وبكل بجاحة - التحول إلى حالة مشرعنة للعبث الميليشياوي، من خلال عدم امتثال أطراف محسوبة على المقاومة للقانون. وما تعدد مرجعيات الحكم وانتهاكاتها للناس في المناطق التي تسيطر عليها قوات هادي المتعددة الولاءات إلا دليل على ماسيجلبه صراع أطراف في المقاومة مع بعضها، من مستقبل تتوالى فيه أبرز أسباب اللادولة. ومن المفارقات بالطبع، أن تفضي شرعية هادي بصفتها شرعية تنتظم على رمزية الدولة، إلى شرعية لادولة، متطابقة بالمحصلة مع لادولة الإنقلابيين التي توصف بشرعية الأمر الواقع في المناطق التي تسيطر عليها. إن ذلك يعبر - وبشدة - عن مآلات الخلافات والأطماع المضمرة بين أطراف في المقاومة، وكذا تواطئها الإنتقامي أو الإستفرادي الذي لا يصب في مصلحة الشرعية، وهدفها في استعادة الدولة كما تؤكد مراراً.
أما السبب الجوهري لهذا الإنحراف الهائل، فهو يكمن في عدم الإلتفاف وراء هدف وطني جامع، فضلاً عن تعدد المصالح اللامشروعة للميليشيات ماقبل الوطنية وماقبل الدولة. ولقد كانت ومازالت الميليشيات المتناسلة هي أعظم الشرور في هذا السياق؛ ذلك لأنها لا تخضع لمفهوم الدولة، كما تريد إجبار المجتمع على أجنداتها وأيديولوجياتها وحالة اللادولة. غير أن تآكل الدولة دائماً هو الذي كان يسوغ لنمو الميليشيات تاريخياً؛ فالدولة الهشة ذات الإختلالات الوطنية الحادة، والتي تسرف في عدم معالجة قضاياها المتراكمة، كما ترفض إعلاء مكانتها القوية في المجتمع، ليس غريباً عليها أن تتحول إلى بيئة مثالية وخصبة للميليشيات.
وإذ تتنكر الميليشيات لكافة حقوق المجتمع، فإنها تدأب على أن تكون بمثابة الوضع الطبيعي الوحيد داخل هذا الوضع اللاطبيعي، أي وضع اللادولة. بالتالي، فإن استمرار السلاح المنفلت، وعدم حضور الدولة في المناطق التي تحت سيطرة حكومة هادي - بحسب ما يفترض - هو ما سيجعلها مرتعاً لمزاج أمراء الجماعات، من الإرهابيين والمتمردين البلاطجة الذين يرفضون الإنضباط لأدوات الدولة، ولا غاية حقيقية في رؤوسهم إلا الصراع الميليشياوي الأخرق على النفوذ، مايقود إلى الإمعان في إظهار إخفاق المقاومة في تأمين المجتمع، وصولاً إلى أن هذا الأداء المختل سيراكم من مسارات التضليل على الناس باسم المقاومة، كما سيجعلهم يفقدون ثقتهم بها. أما الوعي الإستغلالي للسلطة ومحاولة احتكارها ميليشياوياً، فهو الآفة التاريخية التي كانت ومازالت تتجلى في الشمال وفي الجنوب على حد سواء. ثم إن الشمولية الميليشياوية بمبررات أيديولوجية، أو حتى بمبررات قبلية أو مناطقية أو مذهبية، هي العدو الحقيقي لدولة الشعب المفقودة والمنشودة، فيما هوس لغة العنف والسلاح لا يأتي بحقوق دائماً، وإنما بضغائن وصراعات لا يستطيع أحد تحديدها.
وباختصار شديد: الدولة والميليشيات لا تجتمعان. فهل ما يزال في الشرعية المصابة بالارتجالية ثمة عقلاء، ليستوعبوا فعلاً حجم الإستخفاف المتفاقم باستمرار هذا الخلل الفظيع، فيجبرونها على التبصر لإيجاد صيغة فاعلة لإدارة وطنية مأمونة، تحكم وتؤمن مصالح الناس بعقلية دولة رشيدة، لا بعقلية ميليشيا وقحة توغل في الخراب والسوء، ولا تبالي أيضاً! ترى، هل ثمة إرادة حقاً - خصوصاً في جانب شرعية هادي - لمكافحة إرث الملشنات اللعين الذي ابتلينا به أكثر من مرحلة، خلال العقود الأخيرة، وهو الإرث الغوغائي الأرعن الذي ظل يكبح المصالحات الوطنية، ويبرر للاقصاءات وللاستعلاءات، لأنه يخاطب غرائز القوة المصلحية، والأنانية الهوجاء، الفارغة من الحق شكلاً ومضموناً؟!
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها