فراغ موقظ للمكنونات الدفينة
اليمن في الوقت الحاضر يمر في أسوأ وأعقد وأصعب امتحان سياسي وتاريخي ومجتمعي، لقد مرت هذه البلاد بمنعطفات خطرة وحرجة خلال الحقبة المنصرمة التالية للدولة الوطنية في الشمال أو الجنوب وحتى التوحد ؛ لكنها مع ذلك لم تصل فيها الحالة إلى هذه الحدة من القلق والتيه والحيرة والانفلات والفوضى والتخريب والفساد وووالخ من المشكلات الراهنة الواقفة بوجه الإدارة الانتقالية.
الفراغ حين يستبد بقوم؛ يصير الكلام عن الأمل والتفاؤل والتوحد والحوار والهيكلة والعدالة الانتقالية مجرد ثرثرة عابثة لاهية لا قيمة لها أو هدف غير استنزاف الوقت وتبديده في مسائل صغيرة وتافهة كهذه التي شغلتنا كثيراً ولدرجة أننا صرنا منهكين ومتعبين في خضمها، فيما هي في حقيقتها مسائل أصلها الشاغر الكبير الناتج عن غياب الحُكم الوطني الرشيد والعادل والمتجرد من التبعية والولاءات الضيقة الفاسدة.
ما من أحد سينكر بأن قضية الجنوب تعد ـ في المقام الأول ـ "قضية سياسية" كان يمكن التعامل معها بشيء من الاحترام للحق والكرامة والإيثار الجمعي غير الأناني، كما أن مشكلة صعده ما كانت ستصل إلى إيقاظ الإمامة الكهنوتية الصفوية في نفوس وأذهان وجغرافية آخذه في تمددها واتساعها ؛ لولا الشعور بالغبن والضيم الناتجين عن حقبة زمنية من التهميش والإقصاء والهيمنة الفردية العصبية العائلية القبلية.
كيف لا تستيقظ كوامن البشر الدفينة ؟ فواقع الحال أننا إزاء وضعية عجيبة غريبة لا تستقيم مطلقاً لا مع التوحد بكونه غاية جمعية هدفها منفعة ومصلحة الإنسان ذاته باعتباره محور السياسات والمصالح والعلاقات والوحدات، أو مع النظام الجمهوري الذي تم إفراغه من محتواه وجوهره بكونها نظاماً جمهورياً مستمداً مشروعيته من جماهير الشعب لا من حق إلهي سلالي طائفي.
ما من خطر على الوحدة أو الجمهورية أكثر من هذا الفراغ المهلك المدمر القاتل لكل فكرة سديدة ومخلصة ولكل فعل سياسي من شأنه إعادة الاعتبار للدولة والتوحد والنظام الجمهوري والوطن والمواطنة والثورة وغيرها من المفاهيم العصرية الحداثية التي للأسف تم انتهاكها وبعبث وصلف وقهر، وهذه جميعها إذا ما استوطنت وطن، فبكل تأكيد منتهاه مشكلات وأزمات لا تتوقف أو تهمد لحظة.
ما أعلمه جيداً هو أنه وعندما يغيب العدل يتجلى الظلم في أبشع صوره له، كذلك الدولة حين تضعف وتهن ويغيب تأثيرها ودورها ؛ فإنها هنا - ومن حيث لا تريد- تجبر مجتمعها كي يعبر عن مكنونه وأنانيته وضيقه، فكلما فقدت الدولة وجودها في ذهن وتفكير ووجدان مجتمعها ؛ كلما استدعى الأمر حضور العصبية للقبيلة والطائفة والجهة والمكان وغيرها من المسميات الصغيرة التي عادة ما تكون ملاذاً يحتمي به من طغيان فقدانهم لبوصلة الدولة والنظام والقانون.
شخصياً لا يقلقني الكأس الطافح ؛ إنما يفزعني وجود الكأس الفارغ، حالنا لا يشكو من هذه المظاهر الصاخبة الطافحة باليأس والانكسار والمعاناة ؛ بل علتنا كامنة في هذا الفراغ الطويل أمده ووقعه، لكم أن تتخيلوا معنى أن ينتابكم الهلع من عاصفة عابرة أو موجة غاضبة لطمت مؤخرة سفينة لا تعلمون أين موضعها ووجهتها ؟ إننا كذلك حين نجهد أنفسنا في مخاوف تجزأت ما هو مجزأ بالفعل أو في خطر عودة الإمامة ثانية وبعيد أكثر من نصف قرن على ثورة الضباط الأحرار يوم 26سبتمبر 62م.
أعتقد أن الخطر لا يأتي من الجنوب أو صعده ؛ إنما الخطر المستطير المقوض للتوحد والنظام الجمهوري يكون من الفراغ الكبير الذي كل يوم تزيد هوته ورقعته، لا أسوأ من شغل المجتمع في جدل بيزنطي عقيم لا يفضي لنتيجة، لماذا ننهك طاقتنا في محاولات عبثية أشبه بمحاربة بطل رواية " دونكشوت " لطواحين الهواء؟.. أظن أن المهم يكمن بمدى قدرتنا على وضع عجلة الدولة في مسارها الصحيح، إلى ذلكم الحين يبقى الفراغ هو الخطر الأكبر المقوض للتوحد والمهدد للجمهورية.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها