النظام الأميركي يراجع نفسه!
أغلبية الأميركيين صوتوا لهيلاري كلينتون بأكثر من مليون صوت من أصوات دونالد ترمب، ومع هذا ذهبت الرئاسة لمنافسها، لأنه ربح المجمعات الانتخابية. وسبق أن تكرر التناقض في انتخابات عام 2000، ولهذا ارتفعت دعوات تطالب بإصلاح النظام الانتخابي ويبدو أن الكونغرس أنصت ويستعد لمراجعته.
وعلى الرغم من كثرة الانتقادات الذاتية، وعلى الرغم من تعدد علله، فإن النظام الأميركي يعتبر من أفضل الأنظمة الديمقراطية الغربية، مقارنة بالأنظمة البرلمانية مثل الفرنسي أو البريطاني. الانتقادات ترتفع بعد كل موسم انتخابي تشتكي من تدخل الشركات الكبرى في ترجيح كفة المرشحين من خلال التبرعات، وقوى الباكس، والسوبر لوبيست، التي انتقدها ترمب نفسه ووعد بإصلاحها، مع أنه أمر مشكوك فيه.
مع هذا، النظام نفسه، أكثر شفافية من غيره، وأكثر توازنًا بين السلطات، ويمكن المحاسبة من داخله، بما يفوق الأنظمة الغربية المثيلة. فالرئيس يملك سلطة كبيرة لكنها ليست مطلقة، حيث توجد سلطات موازنة له في المجالس التشريعية تقوم بالمراجعة والمحاسبة، فهو الذي يعين وزراءه وليس الحزب لكن الكونغرس هو من يقرر الموافقة أو الرفض بعد جلسات الاستماع. الحكومة الأميركية على الرغم من ضخامتها لا يتعدى عدد وزرائها الخمسة عشر فقط، مقارنة بوزراء دولة صغيرة مثل لبنان، حكومته الأخيرة من 24 وزيرا. والرئيس لا يجتمع بهم بصفتهم مجلس وزراء، كما هي الحال في معظم دول العالم، مباشرة، ومن خلال أجهزته أو رئيس ديوانه، كما يسمونه رئيس كبار الموظفين. والبعض يعتبر أن من عيوب النظام الأميركي أن الرئيس هو الذي يعين قضاة المحكمة العليا، فقط عندما يوجد هناك شاغر، ومنصب القاضي مدى الحياة أو إلى حالة العجز. وبخلاف الأنظمة الأوروبية فإنه لا يجوز لوزراء الحكومة أن يكونوا أعضاء في الكونغرس، بل عليهم الاستقالة عند اختيار أحدهم. والعكس في فرنسا، وكذلك بريطانيا، كل الوزراء أعضاء في البرلمان أو مجلس اللوردات، ومن يوزّر من خارجه يتم تعيينه في مجلس اللوردات. ولا يحق للرئيس أن يتدخل في شؤون الكونغرس، ولا يرأسه إلا مرة واحدة في السنة. السلطات مفصولة، فلا يفرض أحدهما على الآخر قراراته. الرئيس وحكومته، أي السلطة التنفيذية، مفصولون عن الكونغرس، أي السلطة التشريعية، وعن السلطة القضائية. والنظام يلزم الحكومة بتقديم المعلومات للمواطن عند طلبه، إلا ما يصنف سريًا، ويحق له أن يطلب من نائبه في الكونغرس أن يبحث فيه، وتلك الموسومة بالبالغة السرية تترك للجان المتخصصة فيه التي تقوم بمراجعتها.
نظام معقول لكنه ليس مثاليًا، فيه تستطيع الجماعات النشطة التأثير على حركة الدولة، أما الجماعات الخاملة فإنها قد تفقد كثيرا لأن النظام لا يقوم ذاتيًا بحماية أهل الحاجات، لهذا توجد تجمعات لحماية البيئة، وحقوق الأقليات، وأهل المهن وهكذا. ومن الجماعات الخاملة العرب الأميركيون، وكذلك المسلمون الأميركيون، ويخسرون كثيرا بسبب عدم انخراطهم كجماعات في العمل السياسي، ويتكلون على حماية الدستور حقوقهم.
والدستور بالفعل أعلى مراتب النظام، وهناك دول بلا دساتير مثل بريطانيا. في أميركا يعتبر شبه مقدس، لا يجوز نقضه مهما كانت قوة الرئيس أو القضاة، والتعديلات عليه نادرة تاريخيًا. يحمي الحقوق الأساسية للجميع، ويعتبر السند الأول للأقليات رغم كثرة الحملات التحريضية ضدهم، ومعظم القضايا التي رفعها مسلمون أميركيون بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) في قضايا تمييز ضدهم، كسبوها بناء على مبادئ دستورية. وهذا لا يغني عن حاجتهم للعمل السياسي، وفق النظام السياسي المتاح للجميع الذي يتميز بالمرونة، ويعطي للأقليات صوتًا عاليًا مهما كانت صغيرة، الأمر الذي يميز بلدًا كالولايات المتحدة، حيث إن معظم سكانه منحدرون من مهاجرين من أمم مختلفة، بعكس الدول الأوروبية التي تغلب عليها إثنيات وديانات خالصة، حيث تهيمن مصالح الأغلبية على الأقليات.
أخيرًا، رغم أن الحريات محمية، والمشاركة السياسية متاحة للجميع، فإن النظام السياسي يهيمن عليه حزبان، الديمقراطي والجمهوري، الفروقات الفكرية بينهما محدودة بخلاف الحال في أوروبا. والانتخابات الأخيرة غريبة ومختلفة لأن ترمب فعليًا لا ينتمي للحزب الجمهوري ولا يؤمن بكل مبادئه، وكذلك بيرني ساندرز منافس كلينتون الرئيسي في الحزب الديمقراطي، أكثر يسارية من أي مرشح آخر في تاريخ الحزب. ولا ندري إن كانت هذه علامات انتقال وتبدل داخل المجتمع السياسي الأميركي أم إنهما حالتان نادرتان.
* نقلا عن "الشرق الأوسط"
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها