الغضب الصامت!
طيافة في الأدب الثوري للشاعر مهدي الحيدري
في العام 97م تقريبا قرأت له مقابلة صحفية في صحيفة الصحوة، وما يشبه العرض لديوانه الأول بين إيقاد الشموع ولعن الظلام. ثم انقطعت عنه فترة طويلة. وفي مطلع العام 2004م وعلى رصيف الكتب بالتحرير لمحت هذا الكتاب، وبدأت أقلب صفحاته، فعلق البائع: هذا أحمد مطر اليمن..! وكان هذا الكتاب بداية الاتصال، ومن ثم المتابعة حتى اليوم.
مهدي الحيدري.. قبل أن أتكلم عن أدب الثورة في أعماله نظما ونثرا، ألفت انتباه القارئ إلى أنه كاتب استطلاعات صحفية من طراز رفيع، تشبه لغته في هذا الجانب لغة رسول حمزاتوف؛ ولولا ظروف عمله كمحام، وموظف في سلك التربية والتعليم لكان أحد أبرز كتاب الاستطلاع الصحفي على مستوى اليمن، وربما الجزيرة؛ هذا إضافة إلى قليل من كسل المثقف والشاعر الذي غلب نشاط المحامي..!
وعودًا على أحمد مطر.. أخبرني مرة أحد الأساتذة العراقيين منتصف تسعينيات القرن الماضي أن أحمد مطر مُشتهرٌ في اليمن أكثر من العراق. ولم تكن شهرته إلا من شعره فحسب. فقد كان أشبه ما يكون بالناطق الرسمي باسم الشعب العربي المقهور والمسلوب. ولو واصل الشاعر الحيدري مسيرته على ذات النهج الذي ابتدأ به، لتسلم الراية "المطريَّة" بثقة واقتدار، ليس يمنيا فحسب؛ بل وعربيا؛ إنما جنح إلى مجال آخر، منشغلا بهمومه الخاصة كأي مبدع يمني.. وفي هذه الحالة العربية البئيسة يقول قباني:
آه يا وطني الحزين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين.
هل كتب الحيدري بالسكين؟ هذا ما تستجليه حروف الأسطر القادمة..
"سَبَقَ الزَّفر الشّجن
لم أعدْ أملكُ إِلا نهدةً واحدةً
لو تَنَفَّسْتُ بها ..
لارتجَّ في الوطنِ الوطنْ"
شاعرنا مُجيدٌ للغة ببراعة وإتقان؛ حيث تبدو متبرجة أمام جمرية غضب الاستبصار. يهندس معانيها، ويرسم صورها.. ومجيد ـ أيضا ـ لاختيار الكلمات والصور.. يفكر ثم يتكلم، بحصافة هامسة.. لا عجب.. تلك صفة المحامين ورجالات القضاء.
وللعلم.. شاعرنا ليس من المطرودين من جمهورية أفلاطون الذي طرد الشعراء من جمهوريته؛ معتقدا أن الشعر الكوميدي والتراجيدي والتمثيلي لا يقدم الحقائق؛ بل يثير الانفعالات ويقضي على ثبات النفس؛ لكنه أبقى على الشعر الملحمي والغنائي؛ مقررا أن إله الشعر "أبوللو" هو المُلهم لهذين اللونين من الشعر، وأن شعراء الملاحم والغناء هم ألسنة الآلهة وسفرائها إلى البشر. أظن أن العقاد استعار منه الفكرة في نونيته:
الشعرُ من نفسِ الرحمنِ مقتبسٌ والشَّاعرُ الفذ بين الناس رحمنُ
شعر الحيدري ثوري "ملحمي" بلغة أفلاطون" وهو ليس من الشعر الذي يقدم العلاج فحسب؛ بل ومما يقدم المتعة أيضا وفقا لأرسطو. أظنكم قرأتم عن فكرة التطهير الأرسطية...الخ.
قبل الثورة يأتي اليقين الثوري، ما لم احفر لنفسك قبرا وجهز كفنا. ولم تكن قصائده إلا وقود الثورات وزيت مصباحها، وشبابة نارها. في ثورية القصيدة الضوء واللهب معا، يؤججان لهب الوجع في الزمن المخصي.. والوقت العصي على الاستجابة.. ربما أن الثورة "القصيدة" سابقة للثورة "الفعل" كما هو الشأن لدى أبي القاسم الشابي.. وفي ديوان الحيدري "المقاومة" حمم بركانية صامتة من غضب الشعر الثوري الذي تشعر معه بهزج الشعر وأراجيز البندقية معا.. سجالات المَدافع وحوار الكلمة..!
ألم يقل الزبيري قبل اليوم: "كنت أحسُّ إحساسًا أسطوريًا بأنني قادرٌ بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان". للأديب المصري الدكتور إسماعيل عز الدين كتاب قريب من هذا "الشعر في إطار العصر الثوري".
فكرية الصورة وفلسفتها:
"تاريخنا الثوري يولد ميتا.. وإذا ما استهل أماته الثوار"!!
هذه من روائع شاعرنا، وهي وسم على عتبة "واتسه" ومثلها كثر على عتبات أخرى أكثر..
مثل هذه أيضا، نثرا: "أن تقف محايدًا بين ظالمٍ ومظلومٍ، باختصار: أنت مع الظالم". هذه الإشراقة من تجليات المهنة..!
ومثل هذا الومضة: صورة ملونة أخرى، لا تعبر عن ذاتها كصورة فحسب؛ بل عن الفكرة وما وراء الفكرة، عن المعنى وظل المعنى، كما هو الشأن في شعر الحيدري كاملا تقريبا، الصورة غلاف الفكرة، وزينة المعنى، وهي كذلك تأطير للخيال الجامح؛ ومثلما في شعر أحمد مطر من المعادلات المنطقية التي كسرت رتابة الصورة التقليدية في القصيدة السياسية، ففي شعر الحيدري ما يناظرها كذلك:
أرى بلدي بكل الأرض تسعى وكل الأرض تسعى في بلادي
وأيضا:
وبي وجع الدواء بلا دواء سوى صمتي وفي صمتي ارتغامي
وبي وجع السكوت وليس أدهى علي من السكوت سوى الكلام
وبي وجع العروبة أثخنتها يد العربان في الزمن الحرام
بمعنى آخر.. "عقلنة العاطفة" التي تغلب على الفن الشعري بشكل عام؛ لذا فشعره ينتمي إلى رحم القضية التي يحملها، وإن كانت بعيدة، أكثر من انتمائه إلى قلب المكان الذي يسكنه:
وَبِي صنعاءُ تغفُو تحتَ جَفْني فَيَسْهَرُ فوقَ غَفْوتِها منامي
تُصَادرُ نِصْف أَوْجَاعِي بِوَعْدٍ وَيَشْرَبُني بِمَوْعِدِها غَمَامي
بِإحْرَامٍ حلالٍ قَدْ أَهَلَّتْ لعامٍ حَلَّ في الشَّهْرِ الحَرَامِ
يَقُولُ ليَ الهْوَى لابدُّ منها ولو وطأَ الزِّحَامُ على الزِّحَامِ
وما ذا بعد؟ وفي أي قالب نضع النص التالي؟!
في الشعر الفلسفي، كما تأبى البيتان الأخيرتان في القصيدة إلا ذلك..؟! وخاصة الشطر الأخير منهما.. في شعر الغزل؟! تلك واجهة التساؤل أصلا..! ثم هل لمن يطلق عليهم مناوئوهم "الإخوان المسلمين" حضورٌ في شعر الغزل؟! لا عليك.. "الحيدري إخواني "Modren" وللفقهاء قديما في الغزل ما لداعش والقاعدة اليوم في التكفير.. كما أن للزميل الباحث مجيب الحميدي كتاب بعنوان: "محدثون فنانون" لما ير النور بعد..! هل سيرى النور؟!! مرة أخرى: أين نضع هذا النص بأثيرياته المتماوجة؟! هذا نص يشبه اللحن الفيروزي في صباحات سهل البقاع أو مصايف قرنايل.. ربما تشابه الطبيعة.. الأهم: تشابه الإبداع..! نص تقرؤه تفكيكيا أو بنيويا لا فرق على افتراقهما..!
ألم يقل الغزالي المتصوف قديما: "من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج" وهاتوا لي إنسانا سويا لا تحركه الأسجاع أو تطربه الأسماع..
"ما زلت أرحل رغم التيه في سفري
منها على سفري فيها على ألمي
من أين أبدأ يا من حبها خبر
من غير خبر ومختتم؟!
وكيف تبحر في عينيك قافية
تشطرت بين العين والقلم؟!
يامن تموت القوافي تحت بسمتها
كما تموت معاني اللاء في نعم
بأي خديك ترسو نهدة تعبت
من الرحيل ولم تفطر ولم تصم".
مرة أخرى:
بأي خديك ترسو نهدة تعبت
من الرحيل، ولم تفطر، ولم تصم..!
إنها "تساءالات" وليست تساؤلات.. بمعناها الفلسفي المضمخ قليلا بروح الشعر.
بأي خَديك تَرسو نهدةٌ تعبتْ
من الرَّحيلِ ولم تَفطرْ ولم تصم..!
هذه وحدها ليست فلسفة، وليست غزلا، أقل ما يقال عنها ملحمة من عاطفة جوعى، مشبوبة بأنفاس حراء، لها ألغازُ مثلث برمودا..! أو مجرة هائلة تجر وراءها حشودا من الضوء والضياء.. إنها ملحمة من المعاني وإن قلت فيها المباني.
بأي خَديك تَرسو نهدةٌ تعبتْ
من الرَّحيلِ ولم تَفطرْ ولم تصم..!
لوحة.. "على جبينها تتراقص الأضواء" اللوحة أيضا: للشاعر البديع جابر الشراخ..
نص آخر..
لا أدري هل يلحظ معي القارئ حجم تفاني الشاعر حد الذوبان والتلاشي في القصيدة أحيانا، بصورة قل أن نجد لها نظيرا لدى كثير.
ليتَ للمُمْكِنِ أبجدْ
كلَّما ناديتُ للحرف ...
رَغَى الحرفُ وأَزْبَدْ
ليس للمِنْجَلِ مهْيَدْ
تصرخُ الدَّهْشةُ...
في الرَّعشةِ ..
في الوَجْهِ الْمُرَبَّد..
إنّ للبركانِ مَوعِدْ
إن للبركانِ موعدْ
إن للبركانِ موعِدْ
ما الذي يبغيهِ هذا الزَّمنُ الْمَطْحونُ
مِنْ طَحْنِ هوائي
بعد أنْ حَطَّمَ بالفأسِ انْتِمائي
بعد أن صادَرَ مِنْ موتي عَزَائِي
بعد أن حاصرَ أنفاسي
وأَوْغَلَ في دمائي
بعد أن أحرقَ في شِعْرِي
حقول الدّمع
مِنْ أقصى
إلى أقصى بُكَائِي
ما الذي يبغيهِ مِني؟!!ْ
أنا في مُفْتَرَقِ الْخَيْبَةِ مُذْ كنتُ
ومُذْ كانَ رجائي
جِئْتُ مِنْ قِنِّيْنَةِ النَّكْسَةِ مسْكُوناً بمَنْ ؟
أين ؟
متى ؟
أنَّى ؟
لماذا ؟ ولـِمَهْ ؟
جئتُ مِنْ قَهرٍ إلى قهرٍ ثُنَائي .
لا أُبَالي بأَزِيْزِ الموتِ إنْ أزَّ إِزَائِي ..
يَلْهَثُ اليَأسُ
وَرَاءِ اليأسِ
مَيْؤوساً
وَرَائِي .
كُلَّمَا أَدْرَكَنَي
ألقيتُ في فَيهِ ..
فُتَاتِ الأَحرُفِ الْمُستَهلَكَةْ
كلُّما حاولَ أنْ يهلِكَنِي ..
ألْقَيْتُهُ في التَّهلُكَةْ
كلُّما ألقى شِبِاكَ الموتِ لي ..
أَنْجُو..
وَيلْقِىْ نَفْسَهُ في الشَّبَكَةْ
إنه تفانٍ كتفاني الحلاج في سبحاته الصوفية، أو كتفاني أبي بكر سالم بلفقيه في أغانيه "رسولي قم بلغ سلامي.."
ـــــــــــــ
يافطة
أَلِفٌ لاَ شَيْءَ لَهْ
إنه العنوانُ.. والموضوعُ أسعدْ
ترقصُ الْحُرِّيِّةُ الأُنْثى على أكْنَافِهِ كيما يُغنِّي
فيُغنِّي تحتها..
من فوقِهِ عبدٌ يُغنِّي
تحتَ جاريةٍ تُغنِّي...
فوقها يافطة
كلنا من أجل أسْعدْ
والختامُ ا لْبَسْملَةْ
ألِفٌ لا شِيْء لَهْ.
عزيزنا الشاعر الكبير: هل قلت شيئًا؟!
تبارَكَ شعرُك..
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها