الشباب والهجرة جنوبا !!
ساعة واحدة ، ومرة واحدة ، ولقاء واحد ، وجماعة واحدة ، ومع كل ذلك احسست وكأنني اقطع المسافات الشاسعة في لحظة زمن ، كما وشعرت فيها انني إزاء كائنات بشرية جائلة حالمة طامحة مستشرفة الافاق البعيدة دونما يأس او احباط او كلفة او انانية أو خوف من اقتحام الاماكن الممنوعة والمحضورة .
لا أحدثكم هنا عن ابطال الراحل الاديب الطيب صالح صاحب رواية " موسم الهجرة الى الشمال " بل عن عشرة شباب او يزيد تشرفت بلقائهم عصر أمس الثلاثاء ، فبرغم أن مرورهم كان عابرا وطارئا ومباغتا – ايضا – لشخصي الاسير عزلته وفلسفته وتجلياته ، وللمكان المنهك الحزين الضائق بتغريدة تفاؤل وأمل بحلول الربيع ، والمشنف اذنيه وحواسه لنعيق غربان الخريف .
هم قلة قليلة من الشباب الثائر الحالم الرافض للاستكانة والخنوع ،أيا كانت توجهاتهم ومشاربهم السياسية والحزبية ، وأيا كانت الجهة المنظمة المتبنية لمثل هؤلاء الشباب الرائع المتحرر كثيرا من اغلال وامراض نخبه الكهلة ؛ فالمهم لواحد مثلي هو مضمون ومحتوى رسالتها الوطنية الانسانية ، ورقي وتحضر وسيلتها ومنطقها ، ونُبل وغاية مقصدها وغايتها .
تحدثت اليهم باقتضاب وشفافية عما اراه حلا عادلا لليمن واليمنيين ، تكلموا بالمقابل عما يجيش في خاطرهم من افكار جريئة كاسرة لجمود المعتاد والمألوف ، وهم يحدثوني عن هول الخراب والدمار الذي حل بابين واهلها وشاهدوه بأم عينهم ، أو حين عبروا عن جوهر فكرتهم بتجرد ووضوح وصدق ؛ ايقنت وقتها بان مشكلة هذه البلاد واناسها يمكن حلها وعلاجها ولكن وفق تفكير شبابها الثائر المتطلع لحياة حرة وكريمة وعادلة .
نعم فلكم سرني ما سمعته من افكار قد يعدها البعض مثالية وراديكالية لا مكان لها في واقع وطني واقليمي يرفل بتعقيدات سياسية وتاريخية ومجتمعية جمة ؟ لكن الثورات بطبيعتها فكرة مثالية مستهلها ذهن الانسان ، فما من ثورة في التاريخ إلا ووقودها الشباب ،ألم يقل غوته جملته الشهيرة : ( يتوقَّف مصير كل أُمةٍ على شبابها ) ؟
فشباب بلا احلام ، ربيع بلا زهور ، فلا يهرم الانسان إلَّا عندما يحُلُّ أسفه محلَّ أحلامه ، وهذا التعبير البديع صاحبه نابليون بونابرت ، أو كما هو قول الشاعر معروف الرصافي : وهُدى التَّجارب في الشُّيوخ وإنما .. أملُ البلاد يكونُ في شُبَّابها .
اصدقكم انني وجدت في الشباب ما لم أعثر عليه في كهلة الزمن الماضوي ،قلت ربما تحت تأثير ما سمعته من افكار جريئة صادقة : لن يصلح حال البلاد توحد مختل ومشوه يقوم على القوة والهيمنة ويستحكم فيه العتاة الناهبين الظالمين .
التجزئة لن تكون حلا عادلا وممكنا ، ففي الحالتين هذه البلاد يستلزمها صياغة جديدة مبتكرة خارقة للعادة ، كيف صياغة جديدة ؟ الاجابة : بتوزيع القوة والثروة والسلطة من المركز التقليدي المهيمن والمحتكر زمنا طويلا ، أنها معضلة مزمنة عانى منها اليمنيين جميعا شمالا وجنوبا وبان بنسبة متفاوتة .
وعندما أقول بان الدولة الاتحادية المستشرقة لأفاق المستقبل وتحدياته ومشكلاته ؛ فذاك رأي نابع من قراءة ومعرفة لتاريخ موغل في التمزق والتناحر والهيمنة والاقصاء والتهميش ، فكما انه يستحيل صيرورة التوحد دون دولة عادلة يتشارك فيها الجميع .
كذلك هو فك الارتباط الذي أعده ضربا من الجموح غير مدرك للنتائج الكارثية المتوقعة من استعادة الدولة الجنوبية الى سابق حدودها ، إنها مشكلات قد تبدو اليوم مجرد اعراض مصاحبة لا خطر فيها على ولادة الجنوب ثانية ، لكننا وإذا ما نظرنا بعين فاحصة متجردة من أنانيتها وعصبيتها سنجدها مشكلات خطرة وقاتلة يستحيل البناء والتأسيس عليها مجتمعا جنوبيا حرا وموحدا ومستقرا .
خلاصة الكلام ؛ هم جماعة ثوار ، وارادوا بفعلهم بث الروح في جسد ثورة مضنى منهك ، قال لي احدهم مازحا : إنها الهجرة الثورية الاولى الى الجنوب ، لا أدعي نبوءة ، كما واحسب رفاقي ليسوا إلا رُسل محبة والفة وسلام ووئام ، فمثلما للجنوب قضية وثورة ؛ للشمال قضية وثورة ! ففي كل الاحوال اليمنيين اخوة وينبغي ان يكونوا كذلك ، فسوى بقت الدولة واحدة او تجزأت ، فالمهم ليس توحد التراب ؛ بل وحدة الانسان هوية ونفسية وذهنية ومنفعة .
افكار مثالية حماسية ، لكنها برأيي جديرة بالاحترام ، لا أعلم خلفية هؤلاء الثوار الرائعون ، كما وأجهل مقدار معاناتهم لا يصال مثل هذه الافكار الثورية ، فبكل تأكيد هي بداية في مضمار طويل شائك ومعقد ، ما من نتيجة طيبة تأتي من الاسترخاء والخمول ، أنها بداية مشجعة ومحفزة لنتائج باهرة في قابل الايام ، دعكم من هواجس ومخاوف الجغرافيا اللعينة المنهكة ! لا شيء أفضل من احترام كرامة الانسان .
شكرا لكم أيها الشباب الثائر ، أنكم بحق التعبير الصادق والجميل لثورة فبراير ، ادرك جيدا أنه ما من ثورة تنال كامل اهدافها في مدة وجيزة ، فكيف في واقع كهذه وتفتك فيه امراض عدة مميتة ومزمنة ؟ يكفي انكم اقتربتم قليلا من انين الجنوب ووجعه .
أظنكم الآن أعلم من ساسة البلاد وعرابيها ، فمن الآن وتاليا لا أعتقد انكم ستدهشون حين يسألكم شاب جنوبي محبط وغاضب قائلا : امراء وسلاطين ومشايخ الجنوب سلموا امرهم طوعية وكرها للدولة في الجنوب ، فمتى يرضخ وينصاع مشايخ الشمال للدولة وسلطتها وقوانينها ونظامها ؟
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها