واقع محبط والقادم نجهله!!
رتابة وسأم وفزع كبير من المجهول، الوقت يمضي بسرعة دونما توقف أو انتظار، حالنا لا يوحي بثمة استجابة وتكيف يمكنه كسر الإفراط بالتشاؤم المستبد فينا، واقفون، حائرون، تائهون، وجلون، إننا كمن أضاع بوصلة مساره ووجهته؛ فأخذ يلتمس طريقة ما يهتدي بها لجادة النجاة ولكن دون فائدة ترجى من جميع محاولاته العبثية.
هكذا هو حالنا اليوم، فتارة تجدنا متطلعين في كواكب السماء البعيدة، وثانية نقتص أثر البغال والعيس ونعال الجُند.. أتذكر وبحسرة كيف أننا تهنا طويلاً!! وكيف أنهكنا كثيراً في متاهة بحث أشبه بأحجية عصية الحل!!.
في كل مرة أجدني مستعيراً قولة عربية قديمة:"استشارة العاطفة شهراً واستشارة العقل دهراً".. اليمنيون لديهم مناعة مكتسبة تجعلهم بمنأى عن تصريف حياتهم بفهم وتعقل وروية، ما نراه ليس سوى نتيجة لاتكالهم العاطفي، فحين طغى وجدانهم على ما سواه من حكمة ومنطق يتسم بها الفكر الإنساني ؛ كانت الحصيلة مريرة وصادمة وفاتكة لنياط وجدانهم وممزقة لنسيج لُحمتِهم المجتمعية.
ما دلالة وسام الوحدة لجمال بن عمر أو لعبد اللطيف الزياني؟ وما قيمته المعنوية والشرفية والوجدانية إذا ما التوحد ذاته لا يستوجب الزهو والتباهي؟ لماذا نظن دوماً بأن ديمومة الوحدة واستمرارها يكمن في خنوعنا لدول الإقليم أو بقرار من مجلس الأمن والجمعية العمومية؟ أليس الأجدى بنوط التوحد هو المواطن ذاته باعتباره صاحب الفضل الكبير على بقاء التوحد رغم كل المحنة والكارثة؟.
ولاية تكساس الأميركية كانت قد اشترطت قبل قرنين ونيف تضمين دستورها بمادة مانحة لها حق الاستقلال عن الولايات المتحدة، فمتى ارتأت أن مصلحتها بانفصالها فلا يستلزمها لذلك غير قرار من مجلسها النيابي, فيكفي موافقة نصف الأعضاء زائد واحد لتكون الولاية - الغنية بثروتها ومواردها وموقعها - في حل من أمرها.. اليوم وبعد هذا الزمن الطويل لم يعد سكان الولاية يكترثون بجملة صاغها أجدادهم تحت وطأة جزعهم من توحد سياسي قد يسلبهم ثروة موطنهم الغني بالنفط والمعادن والموارد الطبيعية المختلفة.
قلنا مراراً وتكراراً بأن معضلة هذه البلاد الحقيقية هي بدورانها حول دائرة مفرغة، لا قيمة للوقت هنا، كما لا جدوى يبرر إنهاكنا المضني.. الحال أننا أرهقنا أنفسنا في صراعات وثارات وتحيزات أنانية ضيقة لا ترتقي مطلقاً لمصاف التعايش والتمدن والتحضر والمنفعة الجمعية التي لم تزل غائبة وهامشية وبعيدة المنال في ظل صراع فوضوي ثأري انتقامي لم ولن يفضي لاستقرار وازدهار.
الرئيس الشهيد/إبراهيم الحمدي رحمه الله تمكن وفي مدة وجيزة لا تتعدى ثلاثة أعوام وأربعة أشهر من استثمار الطاقة الخلاقة الكامنة في اليمنيين, فكانت النتيجة بلا شك مذهلة على صعيد تصحيح مسار جمهورية سبتمبر وتطبيق مبادئه العادلة القائلة بزوال التفاوت الطبقي وبضرورة بناء جيش وطني وتحقيق الوحدة الوطنية وتجسيد دولة النظام والقانون على الجميع ودون فروق أو تمييز ووووووووو.
" لا يمكن انجاز عمل كبير بدون رجال كبار، وقد أصبح هؤلاء كذلك لأنهم أرادوه لأنفسهم " قولة صاحبها شارل ديجول رئيس فرنسا، وقائد تحريرها من النازية.. نعم؛ فإن الواحد لتأخذه الدهشة والحيرة معاً، فكلما أمعنا النظر في وضعنا المخيب والمحبط والمخيف؛ زدنا يقيناً بأن المسألة يستلزمها جهد كبير وقبله بالطبع رجال كبار في فعلهم وقرارهم وفكرهم وشجاعتهم وجرأتهم ومعرفتهم وحلولهم.
ما من تعقيدات، وما من مشكلات أسوأ من فقدان بلد لبوصلة القيادة!.. في ظرفية كهذه زمام المبادرة ينبغي ألا تفقد أو ترهن للعاطفة الجياشة؛ بل يجب أن تكون المبادرة حاضرة بقوة في ذهن وعقل وفعل من آلت لهم مقاليد السلطة.. شخصياً لا أخشى أكثر من التيه والضياع في محيط مضطرب وهائج ومهلك كهذا الواقع الذي نعيشه ويتحتم علينا تجاوزه وعبوره بفطنة وشجاعة وإدراك عميق بسبل النجاة والأمان.
لعقود خمسة واليمن تتنازعه الفئات المدمرة والوائدة لفكرة الدولة الجمهورية الحديثة المستقرة، إنها ذات القوى القبلية المناطقية الطائفية العسكرية المتصارعة اليوم؛ كي تسترد شيئاً مما فقدته أو تستحوذ وتستولي على مغانم ومكاسب أكثر.. ففي كل الأحوال نحن إزاء قوى تقليدية تعزز من سطوتها وهيمنتها ووجودها في خارطة الزمن القابل، فسواء ناهضت التوحد أو التجزئة؛ فإنها في المحصلة قوى مناهضة للدولة العصرية، ومقوضة لاستقرارها ونهضتها.
أصدقكم أن غالبية الجنوبيين تحركهم معاناة فقدانهم للشعور بالأمان والكرامة والمساواة.. الكلام عن دعم إيراني أو بريطاني أو خليجي أظنه كلاماً مستفزاً وعبثياً يزيد من رصيد الدعوة لفك الارتباط القائمة أصلاً على تأجيج مشاعر الجماهير المسحوقة أكثر من كونها بمصلحة دعاة الفدرلة والتحاور القائم على أساس أعمال الحكمة وغلبة الموضوعية والتفكير.
يقابل هذا الجموح الجنوبي هنالك جزع مفرط ولؤم وأنانية وعنت يمارسه المركز التقليدي المهيمن تاريخياً وواقعياً على الشمال.. "أيها الشيء اعمل شيء فاللاشيء يقتلني" عبارة مثل هذه جديرة بأن تكون شعاراً عملياً لمرحلة يسودها الإحباط والتشاؤم، الفراغ تزداد مساحته يوماً عن يوم، الفوضى هنا نتاج تململ وإخفاق في بلورة الفكرة الملهمة المستقطبة للكثير من التائهين اليائسين الذين أعناهم الانتظار الطويل.
وحدة وفك ارتباط وتقرير مصير وبينهما فيدرالية بإقليمين أو أكثر، إذا ما بقي الأمل غائباً والثقة مفقودة والفراغ لا يجد من يسده ويملؤه؛ فبكل تأكيد لا أستبعد ما هو أسوأ من انسلاخ مساحة الجنوب، إننا نتحدث عن واقع متشظٍ مفكك متخلق من عبث وفساد وفقدان ثقة وأهلية، ومن غياب الحامل لفكرة الدولة الحديثة الذي بمقدوره كسر حالة الرتابة والمراوحة والإحباط.
ويكون بمستطاعه – أيضاً - اختراق إرث مثقل بالمشكلات والاعتقادات والممارسات الخاطئة القاهرة لروح الاندماج والتعايش والنهوض والتغيير.. هذا الغياب للحامل السياسي المعبر عن الحاضر الثوري الانتقالي، وعن هوية الدولة اليمنية المنشودة مستقبلاً؛ كان من تجلياته هذه الوضعية العجيبة من الفوضى والضياع والقلق والجمود والعنت والخيبة، كما وأن من نتائجه السلبية ما نشاهده الآن من مظاهر ممانعة للدولة الواحدة الجديدة شمالاً أو جامحة لاستعادة كيان الدولة القديمة جنوباً.