كلفة الإطاحة بحاكم عربي
ظلت الشعوب العربية لما يقارب نصف قرن أسيرة أنظمة استبدادية خلفت الاستعمار الأجنبي و حلت مكانه، و ظلت تمارس الفساد و العبث و تستنزف الموارد العامة و تقمع الشعوب و تصفي المعارضين أو تنفيهم و تملأ السجون بمن يعارضون توجهاتها و سياساتها، و ظلت هذه الأنظمة تتهم كل من ينتقد أخطاءها بالعمالة للأعداء و خيانة الوطن، و كان في الظروف التي أحاطت بالأمة العربية و الإسلامية خصوصا و العالم بشكل عام ما جعل تلك الأنظمة تواصل استبدادها و قمعها و ظلمها للشعوب، و لم يفكر أحد أن بالإمكان أن يتخلص شعب من اسر حاكمه الذي لم يجد وسيلة لإرهاب شعبه إلا و استخدمها، حتى صار من المستحيل التفكير بإجراء أي تغيير أو إصلاح من داخل منظومات الحكم التي تعفنت و صارت آسنة من طول إقامتها على عروش الظلم و الطغيان و الارتماء في أحضان العدو،
لقد صار أولئك الطغاة في لحظة ما يتخيلون أنهم الملاك الحقيقيون للشعوب و البلدان التي يحكموها، و بالتالي فمن حقهم أن يتقاسموا تلك الممتلكات مع أقاربهم و أسرهم و المرتزقة من المؤلفة بطونهم و جيوبهم، كما و من حقهم أن يورثوها لأبنائهم من بعدهم كما يورثون ممتلكاتهم الخاصة، ولا فرق لديهم، خصوصا و أن معهم من الأبواق ما يكفي لتزيين الإثم الذي يمارسوه و البغي الذي يقترفوه، و أضحى لديهم في بطاناتهم السيئة و المسيئة الكثير ممن يزينون لهم سوء أعمالهم و غدوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا،
و ظلوا مطمئنين لهذا الركود الذي أصاب الشعوب معتقدين أنه الموت و لا شيء غيره، فرحوا و اعتقدوا أنه لم يعد بمقدور شعوب ميتة أن تفكر مجرد تفكير في تغييرهم أو حتى تغيير أبنائهم من بعدهم، حتى حانت ساعة الصفر و أقبلت أعاصير التغيير تهب من تونس الخضراء الوديعة و التي كانت تبدو هادئة مستكينة، فصاحت الشعوب صيحاتها المدوية فوق رؤوس ظالميها و ناهبي خيراتها: الشعب يريد اسقاط النظام، استوعب البعض مضمون الصرخة و دلالة الخروج فقال: فهمتكم فهمتكم، و غادر بدون رجعة، أما الحاكم الأحمق فاعتقد أن بمقدوره أن يزيل كل هذه الجماهير التي امتلأت بها الشوارع و الميادين و دعا القتلة و المجرمين و استأجر المرتزقة لقتل المواطنين الذين ثاروا عليه و على نظامه الفاسد، و في ظنه أن مزيدا من القتل سيجعل هؤلاء يتراجعون و لكن دون جدوى،
مشكلة هؤلاء الطغاة أنهم تصوروا – كما قال لهم زبانيتهم- أن الشعب صار في قبضاتهم و ليس بخارج منها، لذا كان القذافي يصرخ في وجوه الثائرين: من أنتم؟ يقصد أن الشعب كله مملوك له، و لن يفكر احد بالخروج ضده إلا إذا كان قادما من كوكب آخر.
و ظل مخلوع اليمن يهذي كالمجنون كلما رأى مسيرة حاشدة تطالبه بالرحيل: من يرحل؟ و كان لا يقل غباء عن صديقه القذافي حين اعتقد أن القتل في صفوف الثوار سيفت في عضدهم و ينال منهم و ارتكب مجزرة الكرامة و مجزرة القاع و كنتاكي و غيرها من المجازر اعتقادا منه أن القتل هو الرد الوحيد المجدي على المطالب المشروعة، لكن خاب ظنه كما خاب ظن أخيه معمر، و كما سيخيب ظن ثالثهما الذي حول سوريا إلى غابة يفتك بكل من فيها و يدمر كل ما فيها لا لشيء إلا لكونه الأسد ملك الغابة كما أوحت له شياطينه و أجهزته القمعية،
و لأن الحاكم العربي البليد يصير في لحظة من اللحظات متماهيا مع الدولة و أجهزتها فسيكون من المتعذر الخلاص منه إلا بتضحيات تطال البشر و الموارد و البنى التحتية على تواضعها و هشاشتها، و هذا بخلاف التغيير الذي يحدث و بشكل شبه يومي في الدول الديمقراطية، حيث توجه أمس الأول الشعب الأمريكي لاختيار رئيسه بدون حروب و لا تهديد ولا وعيد، من يخسر الانتخابات لن يقود عصابات لتخريب المياه و تفجير أنابيب النفط و الاعتداء على الكهرباء، أنلن يوجه عناصره و أبواقه لإثارة الفوضى و القيام بأعمال العنف، كما لن يتعاون مع القاعدة لقتل الضباط و الجنود الأبرياء و تفجير المنشئات و قطع الطرقات و إرهاب المواطنين و ترويع الآمنين، و بالتأكيد لن يقول الخاسر في الانتخابات: إذا سقطت أنا و جاء رئيس غيري فإن معظم الولايات ستسقط في يد القاعدة. كما فعل الحميري حفيد سيف بن ذي يزن حسب وصفه لنفسه حين قال أنه في سبيل الحفاظ على السلطة سيجعل الدماء تسيل إلى الركب.