التنازلات من أجل الوحدة: أوهام الوقت الضائع!
أصدق وأدق عبارة قيلت في الجدل الدائر حول الوحدة والانفصال، وكل ما يتصل بهما، قالها متابع للشأن اليمني اسمه "فواز طرابلسي"، في مقالة نشرتها صحيفة "السفير" اللبنانية وأعادت نشرها صحيفة "الثوري" اليمنية.
والعبارة تقول: (تصور الحزب الاشتراكي النظام الوحدوي شراكة مناصفة بين الحزبين الحاكمين..).. وأعتقد أن هذه العبارة تنفع أن تكون مدخلا لمناقشة مجموعة من الأطروحات ذات المنحى الانفصالي التي يستمر ترديدها منذ سنوات طويلة تعود إلى ما قبل حرب 94.. والزمن الأقرب للدقة هو أنها أطروحات ارتبط ظهورها مع بداية الخلافات بين الشريكين اللذين (أمما) دولة الوحدة لصالحهما، وتقاسما خيراتها وكل ما فيها.. و"صالحهما" هنا يقصد بها صالح القيادات الكبرى في الحزبين.. وليس الأعضاء المساكين الذين صدقوا - وما يزال كثير منهم يصدقون- أن الوحدة قامت على الصدق والطهارة والتضحية والتنازلات!
ولأن أحد الشريكين خسر شراكته في السلطة بسبب أدائه الخاطئ بعد الوحدة؛ فقد اندفعت (بعض) قياداته ورموزه لتبرير الخسارة بمبررات بعضها ساذج، وبعضها كاذب، وبعضها لئيم.. أما السبب الحقيقي الذي أوردهم المعارضة وأضاع عليهم السلطة فهم حريصون على عدم الإشارة إليه، لأنه عيب في حق شعاراتهم (الليبرالية) التي رفعوها بعد الوحدة، وإن كان بعض القيادات يضطر للإشارة إليه على خفيف، ومع ارتفاع صوت الحراك إعلامياً صاروا يشيرون إليه بطريقة (مزورة)..فهم لا يعترفون بأنهم شنقوا بالحبل الذي أسهموا بإعداده مع شريكهم لخصومهم، وبدلا من ذلك يهربون إلى مخادعة أنفسهم بالحديث عن براءتهم الوحدوية التي جعلتهم يسلمون كل شيء للطرف الآخر الذي كان يتآمر عليهم منذ البداية.. أو كما قالوا!
وقد ظل هذا الخطاب السياسي والإعلامي؛ منذ بدء الخلافات بين الشريكين عام1992؛ يتحدث عن التنازلات التي قدمها (الجنوب) في سبيل تحقيق الوحدة وهم يقصدون بالجنوب: الحزب الحاكم قبل الوحدة، وهي حركة ذكية تفيد في اتجاهين؛ الأول تكريس عقيدة سياسية قديمة أن الجنوب هو الحزب والحزب هو الجنوب، وطالما أنه خرج من السلطة فالجنوب خرج أيضا من السلطة.. والعكس كذلك: أي أن وجود الحزب في السلطة يعني وجود الجنوب في السلطة، وحتى لو انتصر الحزب في مباراة "كوتشينة" فالجنوب هو الذي انتصر.. وإذا انهزم الحزب في الانتخابات أو في الصراع على السلطة فالجنوب هو الذي انهزم.. وعلى ذلك يتم القياس في كل حالة! أما الفائدة الأخرى من جعل الجنوب والحزب شيئا واحدا فهو دغدغة مشاعر الجنوبيين وكسبهم إلى صف الحزب باعتباره جنوبيا معبرا عن هويتهم وآمالهم وحامي حماهم!
ومما لا لزوم له إثبات أنه عندما قامت دولة الوحدة لم يكن الانتماء للجنوب معيارا معتمدا في الترتيبات السياسية التي قسمت السلطة بكل مستوياتها بين الحزبين الحاكمين فقط، ولم نسمع يومها أي كلمة عن الجنوب وأبناء الجنوب وحقهم في المشاركة في السلطة والثروة فضلا عن أن يكونوا ممثلين دون تمييز في الدولة الجديدة.. والذي حدث بعد حرب 1994 أن الذين خسروا السلطة لم يكن بمقدورهم الحديث عن حقوق لهم ثابتة في السلطة والثروة بصرف النظر عن نتائج الانتخابات؛ فكان الحل هو اللجوء إلى رفع قميص الجنوب والمطالبة بحقوقه في الشراكة في السلطة والثروة على اعتبار أنه هو الذي بادر إلى الوحدة وقدم التنازلات الجسيمة من أجل قيامها!
تشمل قائمة التنازلات المزعومة في سبيل تسهيل قيام الوحدة اليمنية مسائل عديدة أهمها؛ التنازل عن الدولة والهوية الدولية، والثروة والأرض، والعاصمة والعلم الوطني، والمجتمع المدني الخ.. ولأنه لم تعد توجد خطوط حمراء أو مقدسات أو ثوابت وطنية كما يقولون؛ فليس هناك جريمة في مناقشة هذه الأطروحات من موقف رافض لها أو غير مقتنع بأصل إدعائها:
فمثلا؛ بعض هذه التنازلات لا يستقيم لها منطق، مثل القول إن (الجنوب تنازل عن علمه الوطني)، فحتى الشمال تنازل عن علمه، وعلم دولة الوحدة هو علم جديد لا هو بعلم الجمهورية العربية اليمنية، ولا هو بعلم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.. وقد تم حذف أجزاء منهما ليكون العلم معبراً عن الدولة الجديدة.. والألوان الثلاثة الموجودة في العلم الجديد كانت موجودة في العلمين السابقين.. فالطرفان إذن تنازلا عن علميهما السابقين إن كان يصح أن يسمى ذلك تنازلاً.. فالعلم الوطني وخاصة في المشرق العربي لم يعرف كرامة ولا قداسة تحميه من التغيير والتبديل على حسب أهواء الأنظمة؛ على العكس مما هو ملحوظ في بلدان المغرب التي ما تزال أعلامها الوطنية تحمل النجمة والهلال رمز الشرق الإسلامي، وهو الحال نفسه في باكستان وتركيا رغم العلمنة المتطرفة التي سعت لمحو كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين!
و(الهوية الدولية) للدولتين السابقتين زالتا عن النظامين السابقين في وقت واحد.. ولم تزل من شطر دون آخر.. ولا نظام دون نظام.. فالطرفان تنازلا إن يصح أن يسمى ذلك تنازلاً.. والمجتمع الدولي منذ1990 يتعامل مع الجمهورية اليمنية باعتبارها الدولة الجديدة التي نشأت عام1990 وليس دولة كانت قائمة قبل ذلك!
- ومن الهوية إلى الدولة.. فالدعاية الانفصالية تذرف الدموع عن أن الجنوب أو الحزب قدم دولة وتنازل عنها لصالح الوحدة.. والحقيقة أن لا أحد قدم دولة لصالح الوحدة.. فقد ظل حكام كل شطر يهيمنون على "الدولة" التي كانوا يحكمونها هيمنة كاملة. والاشتراكيون بالذات ظلوا يسيطرون على "الجنوب" كما كان الأمر قبل الوحدة.. وبدليل أنه عندما بدأ تنفيذ مخطط الانفصال المسمى دلعاً: فك الارتباط بعد الانتخابات، تم طرد المسؤولين المدنيين الشماليين بأسهل مما حدث عندما طرد الثوار السلاطين والأمراء وشيوخ الإمارات والمحميات الجنوبية قبيل الاستقلال عام1967، وعاد كل شيء كما كان، باستثناء أن (البيض) بدأ يحكم الجنوب باسم "نائب الرئيس، وليس "الرئيس".. وظل اسم "الجمهورية اليمنية" يتردد حتى أعلن الانفصال بسهولة جداً، وعاد اسم "اليمن الديمقراطية" ولكن بدون (شعبية) هذه المرة.. لكيلا يغضب الحلفاء أو الداعمون الرأسماليون و"الرجعيون".. وليس من الصعب تذكر أن كل شريك من شريكي الوحدة ظل مهيمنا على قواته المسلحة وأجهزته الأمنية ومؤسساته الاقتصادية والإعلامية من كل نوع!
والحديث عن تنازل (البيض) عن الرئاسة ليس دقيقا كما يردد البعض باستسهال.. فحيدر العطاس هو الذي كان رئيساً لمجلس الشعب الأعلى الذي يقابل منصب رئيس الجمهورية في الشمال.. وعلى أية حال؛ فما حدث ليس تنازلا حقيقيا عن القيادة، بل هو أمر منطقي، طالما أنه لم يكن هناك قبول بالمنطق الديمقراطي الذي كان يقتضي إجراء انتخابات قبيل الوحدة ويتولى الرئاسة الفائز بالأغلبية.. ويومذاك ما كان يمكن للبيض ولا للعطاس أن يحصلوا حتى على الأقلية! وفي مقابل تنازل الحزب عن منصب الرئاسة، وهو أمر حتمي بأي أسلوب، فقد تنازل عبدالعزيز عبدالغني عن منصب رئاسة الوزراء للعطاس.. وتنازل القاضي عبدالكريم العرشي عن منصب رئاسة مجلس النواب للدكتور ياسين سعيد نعمان (الآن يقولون: هذه مناصب ضعيفة وشكلية!).. وحصل الحزب على 50% من عضوية المجالس السيادية كالوزراء والنواب والقضاء، والمهم في كل ذلك أن (البيض) حصل على منصب نائب رئيس مجلس الرئاسة غير الموجود في الدستور، وبصلاحيات رئيس جمهورية حقيقي لم يكن يتمتع بها رئيس في الجنوب قبل الوحدة، وبصورة عامة لم يكن أحد قادراً على إصدار قرار ما إلا بموافقة الحزب الاشتراكي سواء عبر مجلس الرئاسة أو مجلس الوزراء أو مجلس النواب.. إلخ. وحكومة المهندس حيدر العطاس هي التي أدارت البلاد بصلاحيات لم يتمتع بها رئيس وزراء يمني سابق أو لاحق!
فأين هو التنازل إذن؟
(العملة النقدية) أيضاً دخلت ضمن قائمة التنازلات، على أن هذا أمر تم بموافقة الحزب ودون إكراه، باعتبار أن القلوب كانت يومها مطمئنة بالوحدة والريال وبالبقاء في السلطة حتى بلوغ الأجل الإلهي! ويومها لم يكن هناك فرق بين الريال والدينار، ولم يقل أحد إن اختيار الريال ظلم للجنوب ولهويته وتاريخه والدينار والدرهم لم يعرفا في الجنوب إلا منصف القرن العشرين وقبلها كان التعامل بعملات هندية وأجنبية! وخلال السنوات الأربع الأولى من الوحدة؛ ظلت العملتان موجودتين في السوق ويتداولها الشعب سواء بسواء.. على أن عدم توحيد العملة يومها كان أحد علامات الشؤم.. وكان الراحل عمر الجاوي يحذر من ذلك.. وينذر بأن هذا الوضع خطير، ويذكر بما حدث بسوريا التي بمجرد إعلان الانفصال ظهرت عملتها القديمة في لمح البصر!
هل كانت الوحدة مرتجلة؟
ويقولون إن الوحدة الاندماجية فشلت بسبب عدم التحضير لها جيداً، وعدم مراعاة الاختلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين النظامين!
وهؤلاء "المتنازلون" ينسون أن أطول مشروع سياسي في التاريخ كان مشروع تحقيق الوحدة اليمنية، فعلى أقل تقدير يمكن تحديد عام1972 موعداً لبداية التحضير للوحدة بدءا من إعلان القاهرة واتفاق طرابلس، وما تلاه من تشكيل لجان.. وطلوع عبدالله ونزول عبدالله. والمقصود طلوع عبدالله الخامري إلى صنعاء ونزول عبدالله حمران إلى عدن، وهما ممثلا قيادتي الشطرين اللذان ظلا يترددان بين صنعاء وعدن حتى سخر اليمنيون من الأمر بنكتة تقول إن الوحدة لم يتحقق منها إلا: عبدالله طلع وعبدالله نزل (أي عبدالله الخامري طلع صنعاء وعبدالله حمران نزل عدن!).
ومنذ عام 1979 انتقلت التحضيرات الوحدوية نقلة كبيرة وصلت إلى مستوى إعداد مشروع دستور دولة الوحدة.. ثم تواصلت التحضيرات في عهد الرئيس علي ناصر محمد، وتشكلت لجان ومشاريع شركات اقتصادية، وتوالت الزيارات على كل المستويات بين صنعاء وعدن.. وتشكل مجلس أعلى لإدارة التحضيرات وتقريب وجهات النظر!
بعد كل هذه التحضيرات.. كيف يقال إنه لم تحدث تحضيرات جدية؟ وما هو الشيء الجدي الذي لم يتم التحضير له؟
إذا تابعتم سيل الحجج والأحاديث الباكية على الوحدة المتسرعة؛ فسوف تكتشفون أن الشيء الوحيد الذي لم يتم التحضير له هو إعداد وثيقة بتوقيع الشريكين، تنص بوضوح على بقائهما في الحكم حتى مطلع الشمس من.. مغربها! وللذكرى فقط فقد كان هؤلاء المتباكون المنزعجون من الوحدة المسلوقة(!) هم الذين شنوا أعنف حملات التخوين والكراهية ضد المعارضين لعملية السلق الوحدوي، وكانت المطالبة بمناقشة مشروع الدستور وانتقاد تخلفه عن الواقع رديفا للخيانة والعمالة عندهم!
وللمقارنة فقط؛ فإن هناك تأكيدات يرددها البعض بأن زيارة الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي لعدن في أكتوبر 1977 كانت بهدف إعلان الوحدة.. فكيف يقال إن الوحدة كانت قاب قوسين أو أدنى يومها ثم يقال إنها تحققت بارتجال بعد 13 سنة و بعد ما سبقها من تحضيرات أشرنا إليها.
(لا يعني ذلك أننا نرى أن ترتيبات النظام السياسي للوحدة تمت بطريقة صحيحة لأن الطرفين أسسا دولة لحزبيهما وليس للشعب وهذه هي الجريمة التي لا يريدون الاعتراف بها، وهنا يكمن الارتجال والعشوائية والتآمر على الوطن والشعب والوحدة والديمقراطية!)
العاصمة.. العاصمة!
اختيار صنعاء عاصمة لدولة الوحدة وصف أيضاً بأنه تنازل، مع أن هذا الأمر كان نتيجة اتفاق وليس فرضا بالقوة، وطوال عقود ظللنا نسمع أن صنعاء هي العاصمة التاريخية لليمن علامة على الحس الوحدوي.. ومع ذلك فقيمة المدن تكون بنشاطاتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.. وليس لكونها فقط عاصمة سياسية.. وهذه "واشنطن" لا تساوي شيئاً كبيراً مقارنة بـ"نيويورك".. و"لوس أنجلوس"، وعشرات المدن الأمريكية الكبرى والمهمة.. ولو تأسس النظام السياسي لدولة الوحدة على أسس سليمة لكان يمكن لمدينة عدن أن تصير أفضل وأعظم من صنعاء دون أن تكون عاصمة سياسية!
وعلى أية حال؛ ماذا نفع عدن أن تكون عاصمة لنظام ما قبل الوحدة؟ ألم تتحول خلال ذلك الزمن إلى مدينة يرثى لها، وتتدهور أوضاعها اقتصادياً ومدنياً بعد أن كانت درة الجزيرة العربية؛ بل تحولت إلى قرية كبيرة.. بل أسوأ؟ للعلم فقد اتهم الرئيس السابق/ علي ناصر محمد خصمه اللدود/ علي عنتر- في أول خطاب له بعد نزوحه للشمال- بأنه هدد قبيل أحداث 13يناير1986 بأنه سيحول عدن إلى قرية!
وكما زعموا أنهم تنازلوا عن العاصمة.. زعموا أيضا أنهم تنازلوا عن "الثروة".. وفي حوار أو مقال لأحد القيادات التاريخية المعتدلة جاء إن الشعب في الجنوب صوت للوحدة بنعم، وهو يعلم أن بترول مأرب قد أوشك على النفاذ، وأنه لا دخل لدولة الوحدة إلا بترول الجنوب القادم من حضرموت.. وها هي ذي عشرون عاماً وأكثر مرت على الوحدة وما زال بترول مأرب يتدفق ويسهم في رفد الموازنة العامة للدولة! وخلال السنوات الأولى للوحدة كان دخل بترول مأرب هو المورد الأول والأكبر للميزانية الوحدوية.. وكل السيارات والمشتروات والمرتبات، والسفريات وأعمال مجالس الرئاسة والنواب والوزراء وميزانياتها وبدلات السفر والعلاوات والمكافآت كانت تمول من بترول مأرب بالأساس!
المجتمع المدني:
التنازل الأخير الذي زعموا أنهم قدموه في محراب الوحدة هو الدولة المدنية الحديثة أو المجتمع المدني في الجنوب الذي ضاع وتلاشى لمصلحة الدولة القبلية والتقاليد العشائرية في الشمال.
ومن حسن حظ المتنازلين أن أحدا لم يطلب منهم أن يشرحوا للشعب كيف يمكن أن يكون هناك مجتمع مدني ودولة مدنية حداثية في بلد يقوم نظامه السياسي على نظام الحزب الواحد القائد الذي لا يعلو صوت على صوته.. والذي لا يعرف شيئا اسمه حقوق الإنسان والحريات العامة، ولا يوجد فيه تعددية سياسية ولا نقابات حرة، ولا قضاء مستقل، ولا صحافة حرة، ولا تداول سلمي للسلطة.. ولا حرية فكرية ولا ثقافة تعددية.. فضلاً عن التخلف الاقتصادي والزراعي والصناعي.. وبؤس الخدمات العامة؟
كيف يمكن لمجتمع أن يكون مدنياً حداثياً والحزب الذي يحكمه يشهد دورات صراع دموي تستخدم فيه أحدث أنواع الأسلحة.. والبطاقات الشخصية لتحديد القبيلة والمنطقة التي ينتمي إليها المتقاتلون؟
هل هذا هو المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة وهذه هي معاييرهما؟
حتى القبيلة أو المناطقية تأكد أنها ظلت مسيطرة خلف شعارات ثورية بل أحدث الشعارات الثورية في العصر حتى أسفرت عن وجودها في يناير1986!
نقلا عن صحيفة الناس
نقلا عن صحيفة الناس