البُغُض انتقام الجبان وسلاح الضعيف !!
قلنا مثل هذا الكلام في الماضي وسنقوله اليوم وغدا ، فمن يزرع الريح يحصد العاصفة ، ومن يبذر الحقد والكراهية والعنف لن يجني غير الويل والثبور والخسران المبين ! فالبغض والعنف والانتقام حين تصير جميعها سلوكا ولغة ومنهجا وايديولوجيا ؛ بكل تأكيد ستكون النتيجة مأساوية وكارثية على الجميع .
فكما قيل بان النار الكبيرة تأتي من مستصغر شرر ، كذلك هو حال ثقافة الكراهية التي تشبه نار مستعرة متأججة محرقة ومهلكة لكل شيء امامها ، فإن لم تعثر هذه النار على شيء تلتهمه أكلت نفسها في نهاية المطاف .
ما من فكرة نازعة لبغض الاخر وتبجيل الذات إلا وكان مصيرها السقوط في اتون عنف كارثي ومدمر ، لماذا النازية والفاشية في المانيا وايطاليا لم تنتصر رغم تفوقها المادي والحربي ؟ ولماذا عنصرية الاوربي الابيض لم يكتب لها النجاح في جنوب افريقيا ؟ .
وعندما نقول بان الافكار الشوفينيه المبغضة للعرق أو الجنس أو الدين أو الجغرافيا أو المذهب مآلها مأساوي وكارثي ؛ فلأنها لم تنتصر يوما او تبني وطنا مستقرا ومزدهرا ، وهذا البغض لا يقتصر فقط على كراهية الاخر المختلف فكريا وايديولوجيا ودينيا وسياسيا ومجتمعيا وجغرافيا ؛ إنما ينسحب الامر على كل شيء في حياتنا بما في ذلك التعايش الوطني الانساني الطبيعي الاعتيادي .
هذه الاصوات المعادية اليوم لكل ما هو شمالي يستحيل ان تؤسس لتعايش ووئام جنوبي ، فلم ينهك ويمزق ويدمر مجتمع الجنوب ودولته غير هذه التعبئة المحرضة على كراهية الاخر ولمجرد انتمائه لهذه المنطقة او تلك ، لنتذكر جيدا بان مثل هذه الثقافة القائمة على اساس جهوي مناطقي سبق لها تمزيق وتفتيت نسيج المجتمع الجنوبي الواحد كما ويحسب لها تدمير بنيان الدولة وتفكيكها واضعافها .
المهاتما غاندي له قولة شهيرة مفادها : إذا قوبلت الاساءة بإساءة فمتى تنتهي الاساءة ؟ الذين يثيرون حميتك كي تنتقم وتثأر لحقك وكرامتك وجغرافيتك - وإن تراءى لك الآن بانتمائه لجهة الشمال - من كل ما هو منتهك لحقك وكبريائك وانسانيتك ؛ فلن يتورعوا غدا في اثارة غضبك كيما تقتص لجماعتك ومنطقتك من جنوبي لا يقف معك في ذات الخندق .
إننا بهذه الحالة كمن يمهد لمقبرة كبيرة لا متسع فيها للحياة ، فتدجين الانسان وشحنة بطاقة الغضب والتعصب للمكان قد يفلح لبرهة من الوقت في تجنيد الغاضبين المتعصبين ؛ لكنه أبدا لن يؤصل لتسامح وتعايش وطني جنوبي مهما تراءى للبعض امكانية حدوثه .
فحري بنا تتبع مجريات التاريخ كي ندرك ونستفيد من تجاربه وتواريخه ، فما من شك أن ثقافة الكراهية لا تبني مجتمعا متسامحا ومستقرا وقويا ؛ بل بمقدور الكراهية هدم وطنا وجعل مجتمعه الواحد فرقا وطوائف واعراق وقبائل ومناطق واقوام عدة متناحرة ومتحاربة ومبغضة بعضها بعض .
فمثل هذه التعبئة الديماغوجية يمكنها حشد الانصار والاتباع ولمجرد شحنهم برابط الانتماء للمكان ، لكنها وبالنظر والنتائج المتوخاة تعد كارثية العاقبة ، البعض يسأل وببراءة وعفوية : لماذا مكونات الحراك وقادتها لا يتفقون على برنامج وهدف مشترك ؟ الاجابة : لان هؤلاء كان جمعهم على اساس العصبية لجغرافية الجنوب لا على اساس قناعات فكرية وايديولوجية تتعلق بقضية سياسية . هتاف ( ثورة ثورة يا جنوب ) سيكون بهذه الحالة ملهما ومستقطبا أكثر من أي خطاب ونهج منضبط وملتزم بنظام وفكر واعتقاد .
ليت المسألة اقتصرت على الجنوب ودولته وشعبه ؛ بل الشمال لم تقم فيه دولة ومجتمعا مدنيا نظرا للعصبية المقيتة للقبيلة والطائفة والجهة ، الوحدة والديمقراطية والتعددية للأسف هي الاخرى تم العبث بها وتمزيقها وخلخلة بنيانها بذات المنطق الفج الوائد لروح التحضر والتعايش الانساني المنحاز لقيم العدالة والمساواة والمواطنة الواحدة .
فكل هذه المفاهيم تم العبث بها ولدرجة فقدانها لمعناها ، فالوحدة عندما تم ابتسارها جهويا ومن ثم قبليا وعائليا كان ولابد من نهاية محتومة لهذه الهيمنة العصبية ، الديمقراطية – ايضا – تم اختزالها بطرق مضللة ومزيفة جعلتها اسيرة الولاءات الضيقة للقبيلة والقرية .
الواقع أن أية دعوة تقوم على العصبية للمكان أو الدم سيكون مآلها مأساوي وكارثي ، فسوى قلنا بضرورة التوحد أو قلنا بحتمية التجزئة ، ففي الحالتين التوحد أو التجزئة فكرتين سياسيتين يراد منها تحقيق مصلحة المتوحدين او المتجزئين ، شخصيا لا اجد فارقا بين منافح ذائد عن توحد فيما هو في نهاية المطاف يلوذ ويحتمي بعصبته وقريته ، وبين مقاوم رافض الوحدة بينما دعوته ووسيلته مستثيرة لحمية العصبية للقرية والجهة .
ختاما لابد من كلمة نوجهها لمناضلي وشرفاء الكفاح الجنوبي : ادعوا لفك الارتباط أو لتقرير مصير أو فدرلة ، كونوا من تيار البيض او باعوم او ناصر والعطاس ، كونوا من انصار الثورة والحوار أو ممن يقاطع الحوار أو لا يعترف بحدوث ثورة او نصف ثورة .
فكل هذه الاشياء يجب ان تجل وتحترم ولا خلاف لنا معها ، لكن وحين يصير البغض ثقافة شائعة ؛ فذاك ما يجب مقاومته ورفضه بكونه خطرا مدمرا ومهلكا للجميع ، فالبغض إذا ما بُذرت ونمت فسيلته في مجتمع ما ؛ فإنه لا يفرق بين انسان وآخر ولنا بالماضي العبرة والدرس ، والجنوب لا أظن أنه بنقصه البغض باعتباره انتقام الجبان وسلاح الضعيف ، وابن للخوف مثلما قيل ، أو كما يقول لاروشفوكو : عندما يكون بغضنا شديدا جدا فإنَّه يجعلنا أَدنى من اولئك الذين نبغضهم ).