المدنية المفترى عليها
إذا سمعت أحد أعضاء جماعة المنتفعين المنتسب ظلماً لفئة " النخبة " يصرخ شاكياً أن نظام صالح الأمني الاستبدادي أفضل من حكم الإصلاح القادم,فلا تصدقه أو تتعاطف معه,لأنه يريد أن يقنعنا بأفضلية الحكم البائد الذي ثرنا ضده ويخوفنا مما لم يأتِ بعد.
وحين تقرأ حديثاً لعبدالملك الحوثي يدعو لدولة مدنية, وهو يرفع السلاح في وجه الدولة والمواطن على حد سواء,ولم يقدم نفسه حتى الآن إلا مبشراً بخرافات الخميني, وتاجر لمنتج خارجي اسمه الموت،فترحم على الفور على الشهيد الزبيري ورفاقه وأسعى لتذكير الناس بأهداف ثورة 26 سبتمبر حتى لا يصدقوا أن كلها أو بعضها تحقق بالفعل.
وأما إن طالعت "منشوراً" صحفياً يحصل أصحابة على تمويل من عائلة صالح،يصنف فيه أحد خدم "الأولاد " حزب الإصلاح بأنه أكبر خطر يحدق باليمن، فاعرف أنه من المأجورين الذين يكتبون بنظام الدفع المسبق.
ولا يغرنك شخص ما يدعي انتمائه لليسار يعيد عليك قراءة أقوال ماركس وجيفارا المشددة على العدالة الاجتماعية والثورة، بينما لا يعدل مع نفسه ولا مع رفاقه، كما أنه يضيق ذرعاً من ثائر مثله يعلق صورة الشهيد حسن البنا على واجهة سيارة في ساحة اعتصام،ونسي صور رموزه الحاضرة في المكان.
وإياك أن تندهش من كلام داعية قومي وهو يلعن السعودية، لأنها تدعم السلفيين ويستغفر ربه من أموالها،في الوقت الذي يعدد فيه محاسن إيران ويمد يده لدعمها، حتى لو دعمت الحوثي لتقويض الاستقرار في البلاد الذي يعيبه على الرياض.
إن وجدت أحداً من المسافرين إلى "بيروت" أو "طهران " في الرحلة التي تنظمها إيران لمتشيعيها الجُدد،بعد عودته ينصحك بالهجرة إليها، معدداً المناقب والفوائد ويحذرك من زيارة مكة بحجة أن "آل سعود" يحكموها،فاقرأ قوله تعالى "وأعرض عن الجاهلين".
وقد أشاطرك الحيرة والذهول،حين تجد قائلاً يؤمن جازماً أنه لا فرق بين سلطان البركاني وعبدالرحمن بافضل مثلاً,لا لشيء سوى انتماء الأخير للإصلاح،ولكني أذكرك أن مبعث حيرتي ليس المفاجئة،ذلك أنه قد قال أمثالهم في مصر لا فرق بين شفيق ومرسي بل وزاد،أنه سيدعم مرشح الفلول لأنه "حارس" الدولة المدنية رغم ادعائه أنه هتف بالثورة لسقوط حكم مبارك الذي شفيق أحد رموزه،وهو كان نظاماً بوليسياً دكتاتورياً، ونسي لماذا شارك بالثورة ولماذا قامت أصلاً؟.
إن حديث الدولة المدنية ليس جديداً على الجدل الدائر والاشتباك المصطنع حاليا في بلادنا،فهو وإن بات الأكثر ترديداً ورواجاً على ألسنة الكثيرين بعضهم بعلم والآخر بدون، إلا أنه أخذ بالظهور مع انطلاق شرارة الثورة مطلع العام الماضي، وتحديداً عندما التحقت أحزاب المشترك بالشباب الذين كانوا سبقوها إلى الساحات والميادين،فاختلطت المفاهيم والتبس الأمر على الشباب حتى بدأت تتحول إلى شعارات ترفض مشاركة الأحزاب بحجة أنها "ثورة شباب" مع العلم أن الشباب يريدون دولة مدنية,لكنهم لم يقولوا لنا كيف يوجدونها بدون أحزاب.
والمتعارف عليه تاريخياً وعلمياً أن الدولة المدنية في أبسط تعريفاتها حتى عند علماء الاجتماع السياسي هي تلك التي تلتزم بالقانون بدلاً من الأهواء وتحتكم للمؤسسات بدلاً من الفرد وهو ما ينطبق على القوى أو التيارات التي تدعي "مدنيتها "يتوجب عليها الإيمان بقيم الالتزام بالقانون والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
ومن تتوافر فيه هذه الصفات،وتنطبق عليه هذه الشروط،فهو مدني بغض النظر عن خلفيته أو أيدلوجيته،إن كانت إسلامية أو علمانية،ذلك أنه لا تعارض بين الدينية والمدنية.
ونستدل هنا بما أورده الكاتب المعروف فهمي هويدي في مقال حول ذات الموضوع،أوضح فيه أنه إذا كانت الدكتاتورية مختزلة في الدولة الدينية كتجربة حركة طالبان بأفغانستان، فإن هذا الطرح مردود عليه بأكثر من نموذج، ونظاما زين العابدين والأسد في تونس وسوريا شاهدان على أصولية غارقة في العلمانية.
ولم يعد مقبولاً أن يتم قياس مدنية القوى والأحزاب بناءً على أيدلوجيتها، فإن كانت ذات مرجعية إسلامية فهي دينية ولو كان حزب العدالة والتنمية التركي، وعدا ذلك فالبقية قوى مدنية وحداثية وإن كان تاريخها السياسي حافلاً في البلاد العربية بالدكتاتورية من شمال أفريقيا إلى الشرق الأوسط ومروراً بالشام.
ذات مره اختطب المهندس/ عبدالله صعتر في شارع الستين بالعاصمة صنعاء وتحدث عن رؤية متقدمة لشكل الدولة المنشودة وما يجب أن تقوم عليه من سيادة حكم القانون وتفعيل مبدأ المواطنة المتساوية وإطلاق فضاء الحريات، وإبعاد المؤسسة العسكرية عن الشأن السياسي،وضرورة إخضاعها للقيادة المدنية،وبدلاً من أن يشكر الرجل الذي تخرج من جامعة الإسكندرية،بشهادة الهندسة المدنية، تعرض لحملة شعواء من الانتقاد غير المفهوم،وسمعت أحدهم،يبرر رفضه من أن الكلام صادر من " خطيب"،متجاهلاً شهادته العلمية،ناهيك أن العبرة في مضمون الحديث وليس في الشخص أو وظيفته.
ينقل هويدي خبراً يعبر عن قمة الإقصاء والدكتاتورية،وإن بدا طريفاً عن رفض مرشح حزب غد الثورة الذي يرأسه الليبرالي أيمن نور في عضوية لجنة صياغة الدستور في مصر، لأنه مشكوك في مدنيته،ولكم أن تتخيلوا أن التشكيك مبعثه أن الرجل تظهر على جبهته آثار سجود الصلاة.
المدنية ليست ثوباً نفصله بمحل خياطة في شارع هائل أو شهادة تنالها بعد إجازتك لحفظ عدد من الكلمات بينها" القوى التقليدية،الزنداني يدعو لخلافة إسلامية، اللجنة الأمنية بساحة التغيير،الحداثة "ولكنها جملة قيم تدين للقانون بالولاء وللديمقراطية بالالتزام ذلك أننا لا نعاني صراع قوى دينية مع أخرى علمانية لأن جميع الأحزاب مدنية،بحصول مزاولتها وظيفتها بترخيص قانوني،وهو ذاته الذي تدور في فلكه،والقانون الناظم لحركة الشأن العام.
نحتاج فقط لبناء الدولة اليمنية الأم التي توفر فرصاً متكافئة لجميع المواطنين في كافة مجالات الحياة، وأول خطوات ذلك التفكير الجمعي بالمصلحة العليا والتعاون والتحالف لتحقيقها،عبر أطر منظمة تقوم على أحزاب ونقابات وكيانات مدنية وليس تكتلات قبلية أو تجمعات مذهبية أو مناطقية، فقد طال شوقنا لتقارب أسفارنا.