اليمن والفرصة الأخيرة
جاءت الأحداث الأخيرة التي شهدتها اليمن لتكشف الخلل الحاصل في مسار التسوية السياسية ونتائجها في البلد ، وتؤكد أن ممارسة الإقصاء والتهميش والاستفراد بصناعة القرار لترتيب القادم من قبل بعض الأطراف السياسية لن تؤسس لمناخ وظروف مواتيه لإنجاح الجهود التي يقودها فخامة الأخ الرئيس عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية لإحلال السلام في ربوع اليمن.
تؤكد الوقائع والأحداث في اليمن أن ممارسة سلوك الدكتاتورية في السلطة السابقة والإقصاء والتهميش للأخر، وانعدام الشراكة الوطنية الحقيقة هي من اسهمت في صناعة واقع العنف وكرست ثقافة الفيد والاستحواذ وإلغاء الآخر ، لتشكل نتائج هذه الممارسات ملفات مثخنة بالجراح يصعب التعامل معها أو ازاحتها لإفساح المجال أمام عملية التغيير لنقل اليمن إلى واقع جديد يُبنى على أسس الشراكة الوطنية والتعايش السلمي بين فئات الشعب بمختلف انتماءاتها المذهبية والسياسية والاجتماعية والقبلية.
سألني ذات يوم أحد الاصدقاء في صنعاء عقب انتهاء مؤتمر الحوار عن تنفيذ مخرجات الحوار، وكان متفائل في طرحه ويتصور سهولة تنفيذها، فأجبته حينها أن هناك فارق كبير بين التنظير والتطبيق العملي لتلك المخرجات والحلول، وانهُ لا يمكن ازالة هذا الفارق إلا بجعل الواقع والظروف ملائمة لتنفيذها، رغم أنها لا تمثل حلول منصفه خصوصاً فيما يتصل بالقضية الجنوبية - لم يقتنع صديقي بالرد واتهمني بالانفصالي والتعصب، مبدياً إصرارهُ وتمسكه برأيهِ وثقتهِ بإن برامج التوعية بمخرجات الحوار ستُمهد الطريق، وستُهيئ المناخ وستروض الشارع لإزالة أية عقبات في الجنوب أو صعده، - لم يفهم صديقي أن سياسة الترويض التي تحدث عنها لن تنفع في القضايا السياسية الشائكة، وان منطق فرض الحلول ولو بالترويض لا تؤدي إلى نجاح وإقامة سلام دائم، وفي افضل الاحوال يمكن لها تحقيق نتائج مؤقتة، لسبب غياب التفاعل الطوعي من المجتمع مع أية حلول مفروضة مهما تكن عادلة من وجهة نظر صانعيها، فبدون وجود الشراكة الوطنية والتعايش السلمي بين افراد وكيانات المجتمع مذهبياً و سياسياً و قبلياً، لن نُغير الواقع كي يصبح ملائماً يتقبل فيه المجتمع أية حلول ويشارك في تنفيذها.
وفي الوقت الذي يرى فيه كثير من اليمنيين الحاجة لبناء شراكة وطنية متينة على أُسس سليمة قابلة للاستمرار والتوارث، تستند اجراءاتها على خطوات شجاعة لترسيخ قيّم التسامح والتعايش السلمي وتأصيل هذا السلوك في الحياة اليومية للفرد، والتخلي عن ثقافة العنف والتعصب المذهبي والسياسي والقبلي السائدة في المجتمع منذُ عقود والاتجاه بنوايا صادقة لإحلال السلام فيه.
للأسف نجد جماعة الحوثيين التي تدعي انها عانت من الاقصاء تحاول اليوم الاخلال بالتوازن السياسي والتعايش المذهبي الحاصل ولو انهُ في مستواه )الأدنى ) بارتكابها لإعمال العنف والاستفراد بالمؤسسات وممارسة الهيمنة الادارية والمذهبية على دور القضاء وبعض المؤسسات، وتنصيب نفسها وصياً على الشعب اليمني، دون مراجعتها للتاريخ والاستفادة من دروس وعبر الماضي ، أو ان تدرك بان هذا السلوك لا يمكن أن يؤسس لشراكة وطنية ناجحة لبناء الدولة وإحلال السلام في المجتمع ، وإنما سيؤسس لواقع مُدمر لليمنيين ستطال آثاره شعوب ودول الجوار في الجزيرة والخليج.
سيطرة مسلحو أنصار الله على المساجد والمحاكم في صنعاء الاسابيع الماضية تدفن ما تبقى من مظاهر سلوك التعايش المذهبي والديني بين اليمنيين، ليحل مكانها سلوك الاكراه المذهبي، وثقافة الوصاية، والاستحواذ على مؤسسات الدولة، لتكرس فيما بعد واقعاً يمنحها الحق بالتدخل في حياة الناس، والتطفل على خصوصياتهم، فهذا مؤشر خطير لما هو قادم لزيادة تأزم العلاقة بين الدولة والدين في بلادنا بسبب توظيف الدين من قبل جماعة الحوثي للسيطرة على السلطة.
أدى رئيس الجمهورية صلاة عيد الأضحى المبارك هذا العام مع قيادات الدولة، في صالة الاجتماعات بالقصر الجمهوري ، بعد سيطرة جماعة (الحوثي (على المساجد في صنعاء، جاءت بمثابة رسالة لها دلالتها وأبعادها الانسانية، لعل جماعة الحوثي وغيرها من فئات وأفراد المجتمع اليمني الذي يتربع سلوك التعصب في قلوبهم سيفهمونها ويلتقطون مضمونها، وما تدعو اليه – للحفاظ على ما هو موروث وقائم من التعايش السلمي بين جميع المذاهب والتيارات الدينية والسياسية والكيانات القبلية في بلادنا، حين نرى اليمنيين يجتمعون بمختلف إنتماءاتهم لتأدية الصلاة في مسجد أو أي مكان دون فرض مذهبي معين عن هذا المسجد او اذك من هذه الجماعة او تلك.
هذه الدلالات والمعاني لتادية رئيس الجمهورية صلاة عيد الأضحى المبارك في هذا المكان تعيد إلى الذاكرة ما حملته تأديته لصلاة عيد الفطر المبارك الماضي في جامع الصالح ومحاولته تحقيق ( المصالحة الضرورة ) بين القيادات المتصارعة التي لم يُكتب لها النجاح لعدم فهمها الرسالة وقيمتها الحضارية الانسانية.
ستبقى هذه الرسائل بكل ما تحمله من مضامين سامية، ناطقه على جهود فخامة الرئيس عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية ، وسيدونها التاريخ شهادة عظيمة على حرص فخامته لتجنيب الشعب اليمني ويلات الحروب والتمزق، وتأكيداً صادقاً على سعيه الوطني لإحلال السلام في اليمن حين جسد هذا الحرص بما رآه ضرورة السعي في عيد الفطر الماضي للقيام بـ (مصالحة الضرورة) كواجب ديني ووطني ينبغي التعاطي معه، ومن خلال ما يراه اليوم بان التعايش السلمي والشركة الوطنية (الفرصة الأخيرة ) ينبغي ان نجعلها واجباً دينياً ووطنياً لإنقاذ اليمن من التهاوي وحالة التمزق والحروب التي تؤشر لها الوقائع على الارض.
ترى هل ستفهم جماعة الحوثي أبعاد هذه الحقائق وتعي أنهُ ليس بمقدور أي طرف سياسي أو مذهبي التسلط على اليمنيين والاستفراد بمؤسسات الدولة بمنطق القوة الذي لا ينتج إلا التمزق وإعادة إنتاج نفس الأنظمة الديكتاتورية حتى وإن غطت نفسها برداء الديمقراطية أو الادعاء بعدالة المذهب، وتدرك أنها وحدها فقط - من سيتحمل نتائج أي فشل للفرصة الأخيرة، كما تحمل الآخرون نتائج فشل تحقيق(مصالحة الضرورة).
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها