ماذا يفعل الزعيم في القبو؟..
قبل عامين كان صالح يخوض عملية حوار أزلية مع خصومه السياسيين. في 28 اكتوبر 2010 أنهى صالح المرحلة الأخيرة من الحوار، ألغى لجنة الأربعة، ومزق الصحيفة بما فيها "باسمك اللهم". بعد أربعة أشهر اندلعت الثورة في كل كيلو متر مربع. عاد صالح من جديد، هذه المرة بعرض شديد السخاء. كان الوقت قد تأخر كثيراً.الآن، بعد عام ونصف من الثورة، حصل صالح على فرصة أخيرة للنجاة. لكن فيما يبدو سيداهمه الوقت، وسيكون قد تأخر كثيراً.
هذه ليست فقرة من نبوءات نوستراداموس، ولا هي صفحة من كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين. في الواقع: نحن نسرد قصة تكرّرت آلاف المرات في التاريخ ملتزمة بالتفاصيل ذاتها، وفي الغالب: احتفظت القصة بملامح ضحاياها كما هي مع تعديل بسيط في الأسماء.
نادر قيلي، الذي يصفه المؤرخون بنابليون بلاد فارس، انطلق شمالاً وشرقاً بجيوشه في القرن الثامن عشر، هزم الروس والأفغان والأتراك والمغول. وعندما لم يعد هناك من داعٍ استراتيجي لحروبه فكّر قيلي: لو أوقفت الحرب الآن من أين سأنفق على كل هذه الجحافل. بالنسبة له أصبحت تكلفة الحرب أقل من تكلفة السلم. بمعنى آخر: كلفة الفوضى أقل بكثير من الكلفة الباهضة للسلام والاستقرار. واصل نادر قيلي حروبه بلا سبب، وقتل في أرض بعيدة وهو يعلم تماماً إن اللحظة التي قتل فيها لم تكن تستحق العناء فضلا عن التضحية بالنفس. صاغ العرب مقولة "بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين". مع أول قتيل يصبح القتل نشاطاً أصيلاً، وخياراً استراتيجياً في التعامل مع المشاكل والصعوبات. قداسة النفس البشرية مثل لوح رفيع من البلور، بكسره يتحول القاتل إلى كائن خارج عن التصميم البشري الجوهري.
حتى وهو في القبو يفكر صالح في قتل مزيد من البشر. البشر بالنسبة لصالح "كروت"، ورق على طاولة، لا عمق لهم، ولا مجال إنساني أو حقل إلهي. سيقول: اطلقوا النار على ياسين سعيد نعمان، ثم سيقرر هذه المرة ما إذا كان سيقتل ياسين أم يكفي أن يشعر ياسين أن صالح يمكن أن يقتله. كلا الأمرين يدخلان نفس الدرجة من الرضى لقلب صالح. صالح مسخ مشوّه، بلا مرجعية وهذه ليست سبّة، بل علامة ثانوية في "متلازمة صالح" شديدة التعقيد.
قبل فترة ليست بالبعيدة امتنعت صحيفة محلية عن نشر مقالاتي ساردة أسباب خرافية في مقدمتها استخدامي لوصف "مسخ" في حق صالح. نحن لا نلعن صالح بل نشخص عوارضه القاتلة، نحاول أن نتعرف عليه في حالته الجديدة: في القبو. سيكولوجية المقامر تصلح كأداة تحليل نفسي يمكن أن تتنبأ، في محصلتها النهائية، بمغامراته الأمنية والسياسية.
في الأشهر الأخيرة رفض صالح انضمام اختصاصي "سلوكي" لفريقه الطبّي. المنحرف سلوكياً يرفض الاطلاع على تكوينه النفسي، فهو يعلم أن الوقت قد تأخر كثيراً على إعادة النظر وما قد تفضي إليه من توصيات.
الحرس الجمهوري، يُعتقد، هو قرص صالح الصلب، لكنه أصبح يدير نشاطه عبر أقراص ليّنة متسلسلة، من القبو دون الحاجة لراجمات الحرس وهيئته الإمبراطورية، رغم إنه لم يحقق حتى الآن أي شيء يستحق رفع القبعة. لقد عطل صالح الحرس الجمهوري، في مرحلة ما قبل القبو، الحياة علانية.
أما الآن فإن الأقراص المرنة هي التي تعمل على تعطيل الحياة، وإطلاق الرصاص، كخيار استراتيجي وحيد لحياة صالح، الحياة التي نشأت مثل شجرة اللبلاب: تسلقت على الأعناق، خنقت الجميع واستمرت. في علم النفس: لا يرى المقامر حجم خساراته، يرى فقط إمكانية أن يحقق قريباً نجاحاً عظيماً يعيده إلى المقدمة. وكانت الأديان قد حكمت على القاتل بالقتل، وطاردت المقامرين. فهؤلاء، فيما لو استمروا، سيعملون على تجريف الإنسانية والسلام ببرود مريع.