الطفل الذي قد يُصبح «إرهابياً»
في لحظة مارقة من الزمن سيُصبح ذلك الطفل إرهابياً, البراءة التي صادفتها توزّع القُبل على خدود الغرباء لاستدراج عواطفهم وإنسانيتهم قد تستحيل إلى كائن بذهنية مفخّخة بثقافة استحلال الأعناق, قد يحدث أيضاً تطوراً دراماتيكياً في نفسية وطريقة تفكير الطفل سينقله من وضعية استدراج الناس إلى استدراج جثثهم نحو القبور المخيفة..!!.
على متن حافلة صادفته ينشر غسيل الوطن المتعب على خدود الراكبين, لعابه الطري يرسم مأساة وطن لا يحتفظ لإنسانه بشيء عدا الفاقة والمهانة والبؤس، كنت منشغلاً بالهاتف حين فاجأني بقُبلة طبعها على خدي؛ ثم أرسل بصره في اتجاه يدي الأخرى التي كانت تحوي «فلسات» كنت قد جهّزتها مسبقاً لدفع الحساب, حين رفعت رأسي ناحيته أيقنت للتو أنها طريقة جديدة ـ أكثر احترافية ـ للتسوّل غايتها بعث خلجات الضمير الإنساني.
قلت له: تبدو صغيراً؛ لكنك بخطورة شاب ثلاثيني، قبل أن أمنحه ما كان بيدي وضع قُبلة على خد رجل في المقعد الخلفي بينما عيناه لم تبارحا النظر إلى يدي, كان يدرك في قرارة نفسه ربما أنه أتقن إلقاء عود ثقابه في أغوار ضميري وأشعل فتيل إنسانيتي، بدا ذلك واضحاً وهو يأخذ ما في يدي ويغادر الحافلة باتجاه الأخرى التي تليها..!!.
تتقن الفاقة صناعة جيل بملامح إرهابية كاملة كما لا تفعل القنابل الأمريكية الذكية وطائرات دون طيار, أرصفة الجوع والفقر لا يمكنها سوى أن تلعب دور الحاضن لأفكار الكراهية والعنف والانتقام التي تتغذّى من قسوة الظروف وجحيم الأيام.
يحفل ذلك الطفل الوديع بملامح بريئة وطرية؛ غير أنه لا يعتقد أن من حق الناس عليه مد يد العون له, يتضخّم هذا الاعتقاد لديه بتراكم مشاهد الزجر والامتهان, ذات زمن سوف تتسع مدارك الصبي وسيكتشف أنه كثيراً ما تعرّض للقسوة والإهانة, وأن كائنات ـ ستخبره عن ذهنية الانتقام الصاعدة ـ حافلة بالوحشية كانت تزجره وتنهره في وقت كان يمط قامته القصيرة لطبع القُبل على خدودها الخشنة وأنها تنتمي إلى مجتمع مُفرغ من مفاهيم العطف والرحمة، ستأتي النتيجة على هذا النحو الفاجع: «هذا مجتمع قبيح ولا يستحق أن يعيش..!!».
سيمضي الطفل ـ الذي أصبح شاباً ـ في اتجاه البحث عن ملاذات توفّر له قاعدة آمنة ينطلق منها في الانتقام من المجتمع القبيح، سيرتكب كل ما يشبع نزعة الانتقام لديه.
الشاب الذي كان صبياً ولم تُتح الأقدار له فرصة التعلُّم والمعرفة سيراهن على أن القتل فكرة منبوذة فقط لأنها تعني موت إنسان, هو غير محيط بتفاصيل الحيثيات التي تجعل من القتل إحدى أكبر الجرائم المنهى عنها في الشرع والقانون والعرف, سيمارس القتل لأنه يرى أن عديمي الرحمة هؤلاء الذين نهروه حين طلب منهم مد يد المساعدة والعون له يجب ألا تكون الفرصة متاحة أمامهم للعيش, بقدر كل زجرة اعترضت مسيرة تسوّله سينتقم, لن يكون بحاجة إلى وضع قائمة بمستويات الانتقام ولا بمعاييره، المجتمع بكامله سيقع تحت طائلة الانتقام.
يستبد بي الشوق لاجتياز مستقبل غامض الملامح, مبهم التفاصيل, مثقل بآلاف النسخ المكرورة لذلك الطفل، وفقاً لتصوّر مماثل لكل نسخة؛ فإن المستقبل يمكن أن يكون كل شيء إلا أن يكون جميلاً وآمناً ومشرقاً.
لا أسعى إلى رسم المستقبل في صورة حافلة بالرعب والخوف, بيد أن هذا الحشد من الطفولة المتسوّلة في الشوارع يختزل في مخيلتي مشهداً لمستقبل سيمثّل هؤلاء جزءاً أصيلاً منه.
تخيّلوا مستقبلاً لبلد تحتشد فيه كتل من البشر بملامح قاسية ومزاج نفسي خرج من الماضي يجترُّ خلفه كل ذكريات الزجر والبؤس والامتهان من المؤكد أننا سنحتاج إلى معجزة لتلافي هذه الكارثة, ستكون أمامنا مهمة لاجتياز نصف مستحيل حتى لا يصبح هذا الطفل وزملاؤه ضحايا لثقافة تقدّس قتل الإنسان, ثقافة الإرهاب المدمّر أعني أيها السادة..!!.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها