اطعم الوحش !!
في العام 2010 قلت لخالد عبدالهادي، وهو كاتب مرموق، في مكتب صحيفة المصدر: لو تخيّل الواحد منّا نفسه بعد عشرين عاماً، ليكتشف أنه أضاع كل تلك السنوات من عمره في تحليل تصريحات سلطان البركاني. سيدرك فجأة أنه كان مجنوناً، وضالاً، أنفق حياته في أتفه الأشياء على الإطلاق.
غير أن الأمر لم يكن يتعلق بسلطان البركاني، الذي يفوق الأشياء التافهة رخصاً وفقداناً للمعنى. بل بالصدفة التاريخية التي جعلتنا ننظر إليه كما لو كان لوحة إعلانات لمؤسسة خطيرة.
هل كنتُ أحتقر البركاني في تلك الساعة؟ في الواقع، لا أزال أحتقر البركاني وأراه تجسيداً لتفاهة الشر، وتفاهة الوجود نفسه. أما هو فلا يكترث لاحتقاري، ولا يأبه له. كانت هذه المعادلة قائمة، وستستمر. وما إن تصدر عن البركاني هرتلة، عند أي مستوى من التهافت، حتى ننطلق نحن الكتاب، الذين كنّا نظن أن مهمتنا حماية الجمهورية، لنعلق على ما قال. كنّا نشبه خبير المال في فيلم "ذئب وول ستريت" وهو يشرح لبطل الفيلم "دي كابريو" ظروف العمل في وول ستريت:
أنا أمارس العادة السرّية، هنا في مكان العمل، في اليوم ثلاث مرات. هنا كل شيء مرهق، عليك أن تطعم الوحش. اطعم الوحش.
كان البركاني يهرتل، وكنا نسرع بخفة ذئب في جبل، نطعم الوحش. استمرت هذه العملية لفترة طويلة. كان البركاني يضخ غباءه التاريخي، فهو رجل لم يقرأ دراسة علمية واحدة في حياته، وكنا نتفهم ظروف الكتابة في البيئة اليمنية، ننصت لنصائح ذئب وول ستريت.
ما بعد البركاني هي الفترة الزمنية التي شهدت انهياراً كليّاً في الأخلاق وصعوداً موجياً للمهرتلين الجُدد. ستجد إعلامياً نشطاً يتبع جهة ما يكتب: رأيت في المنام أني أقود ثورين عظيمين، أسوقهما إلى صعدة. يفسّر حلمه لقرائه بالنصر المبين.
من حق المرء أن يُهرتل. كلنا نخرج أحياناً عن أسوار العقل ونهرتل خارج الأسوار: لا بد أن تطعم الوحش. لكن أن تهرتل على الدوام، ثم يتطور الأمر لديك فتعتقد أن هرتلتك هي مساهمة نبيلة منك لشرح العالم وتفكيك معادلاته، فهذا أمر آخر. أمر بالغ التعقيد.
انفجرت ماسورة الهرتلة، وتناثر المهرّجون. تابعت حلقة أخيرة على برنامج الاتجاه المعاكس لشابين يمنيين فشعرت بالخزي. هذا ليس احتقاراً لأحد. إنه فقط شعور بالخجل العميق. هل جرّبت هذا الإحساس: إن تسمع كلاماً يبلغ في تفاهته وهرائيته حد أنك لا تستطيع أن تدحضه! أعد قراءة الجملة، تخيّل مستوى التعقيد. بصرف النظر عن المساهم الأكبر والمساهم الأقل، كان المشهد إجمالاً متسقاً مع التصنيف أعلاه.
إذا قلت لنفسك إن عليك أن تكتب في الشأن العام، المعرفي أو السياسي أو الثقافي، فتذكر الآتي:
ذكر الأكوع، الراحل،في مقدمته لكتاب الخزرجي عن الدولة الرسولية قوله إن الأئمة في اليمن لم ينشروا كتاباً واحداً خلال سبعين عاماً.
زمن الأئمة لم ينته بعد. لا يزال اليمن بعيداً عن إنتاج الكتب. في "الرمال المتحرّكة" للعيني تقرأ صفحتين كاملتين عن أول مرة ذاق فيها طعم الكوكاكولا، وثلاثة أسطر عن يوم 26 سبتمبر. لا تستغرب كثيراً، فقد برر ذلك بقوله إنه كان في لبنان في ذلك الحين. يهرتل الجميع. حتى إن المرء سيقول لنفسه: حسناً فعل الأئمة، منعوا الكتب، منعوا الهرتلة. في الحقيقة: احتكروها!
إذا ربطت نفسك في الشأن العام فعليك أن تقبل قدرَك، أي أن نتحلى بالشجاعة وتناقش الكثير من الهرتلات والمهرتلين. لا تشعر بالاشمئزاز. فإذا ألقيت قلمك على المكتب وصرخت على طريقة الألمان: شايزه، أي خرا بالألماني، فلن تجد شيئاً تكتبه. عليك أن تطعم الوحش! هؤلاء المهرتلون يقدّمون لك طعام الوحش. تحلى بالشجاعة واقترب من الهرتلات. بذوق الأمير الرفيع التقط بعض الجمل وناقشها سيميائياً، وهيرمينوتيكياً. امنحها حياة، ليس لأنه نصوص حيّة بل لأسباب أخرى خارجة عنها. فمثلاً، تحلّ بالشجاعة وناقش هرتلة علي البخيتي. أنت لا تعرف علي البخيتي. لا يوجد الكثير عنه لتعرفه، فهو لا يساهم في الدراسات العلمية، لا يقرأها، لا يدرّس الجافا لطلبة الجامعة، لا يقرأ الصحف الصادرة باللغات الأجنبية، لا يهتم بالبايولوجيا، لا يمكنه الإشارة لكاتب واحد عالمي، ولا لكتاب جديد، لا يتذكر الرياضيات، ولو هاجر إلى بلد متحضّر سيصبح عاطلاً عن العمل، فليس لديه مهارة واحدة مما يحتاجه العالم الحديث. باختصار: هو شخص لا تحب أن يكون يوماً من الأيام ولدَك. بالمناسبة: هذا ليس احتقاراً، ولا سباباً. فهذا الشاب وضع في قارعة الطريق كلوحة إعلانات أطلق على تسميتها "ناطق رسمي للحوثي". مهما هرتل عليك أن تتعامل مع ما سيكتبه بحذر، وبذوق الأمير الرفيع التقط بعض العبارات من كلامه، ثم اطعم الوحش!
حتى الساعة أشرت في مقالاتي إليه مرتين أو ثلاثة. أي أطعمت الوحش بمعدل ضعيف للغاية. تحاشى الإشارة إلى ملاحظاتي الموضوعية حول بعض ما كان يعلق على صدره من هرتلات، باعتبارها تعكس عشوائية خطاب جهة ما، الحوثي. قال المهرتل الصغير إني أكتب ضدّه لأنه هاشمي. مبدئياً أنا لا أعرف ماذا تعني هذه الكلمة بالضبط. كما أن الأمر بالنسبة لي "شايز إيغال، يعني سيّان" من يكون، بالمعنى البيولوجي. فهو في الأخير لا يساهم في الدراسات العلمية، ولا الإنتاج الأدبي، ولا يضيف حتى استعارة واحدة للكلام. حتى إنه لا يمكنه مساعدتك في "تسطيب الويندوز"! إذا كنت تعيش خارج اليمن، في مكان يعيد تعريف البشر على نحو مختلف، ثم وصف لك هذا الشخص على النحو أعلاه فإنك ستهتف على طريقة ماركيز في رواية "خطبة بليغة ضد رجل جالس": يا إلهي! ولكن لماذا ليس له ذيل؟
الهاشمية هُنا، فيما يبدو، كلمة غير محايدة سياسياً وثقافياً ولا حتى إثنياً. ليكُن. أن تكون هاشمياً أو أحد سكان الميسيسيبي، شايز إيجال! الحضارة البشرية تصنع على مدار الساعة. يكفي، كما يقول مؤلف عصر الجينات والإليكترونات، أن تشتري جهاز كمبيوتر حتى تكتشف بعد ثلاثة أيام أنه أصبح شيئاً أثرياً. تعرّف الدول المتحضرة قوتها النوعية بعدد حملة درجة البي إتش دي، وتنظر إلى المهرتلين باعتبارهم يقتاتون من أموال دفعي الضرائب دون مقابل حقيقي. بمقدار مساهمتك في دفع عجلة الحضارة الإنسانية إلى الأمام، ولو مليمتراً واحداً، يصبح بالإمكان تعريفك، ثم تصنيف درجتك في هيراركية صارمة حضارياً. ألمانيا، وهي دولة في سقف العالم، لديها قانون إجباري يجبر الشخص، وموظف الأحوال المدنية، على كتابة الدرجة العالمية "د." في البطاقة الشخصية وجواز السفر. تصبح الدرجة العلمية جزءً من اسمِك، جزءً أصيلاً في كل تفاصيل الحياة. مشروع حزب "أمنو" الماليزي 2010 احتوى عبارة تقول: لدينا 22 ألف حامل دكتوراه، من المتوقع أن يبلغوا 65 ألفاً مع نهاية مشروع "واواسان 20". هذه الملاحظات مهمّة لفهم كلمة "هاشمي" أو "ميسيسيبّي" شايز إيجال من تكون. الأمر لا يتعلق سوى بشأن واحد: إلى أي مدى يمكنك المساهمة في دفع عجلة الحضارة البشرية الراهنة إلى الأمام. وفي أسوأ الظروف: أن تكف عن أن تكون ضاراً.
كان الدكتور هنري كسينغر في كتابه الشهير A world restored يقول إن أماني السلام أسهل من إنجازه، وأن السلام ليس سوى تحاشي الحرب.
الأمة، الجماعة، الجهة التي لا تعمل كل ما في وسعها على "تحاشي الحرب" هي أمة/ جماعة تمثّل خطورة حادة على فكرة السلام نفسه، أي على الحياة. المزيد من الجدل هُنا سيميّع الحقيقة البيضاء. لهذا كان كيسينغر يتشاءم فيقول "غير أن وجودنا وحياتنا سيبدوان أحياناً رهينة في أيادي بعض البشر الذين بلا رحمة، ولا مبالاة"..
عند هذه الفكرة كتبتُ اختلافي مع حركة الحوثي، خطابه، موقفه السياسي المائع، وعلاقته الذهنية والإيديولوجية بفكرة المجتمع المفتوح، واستعداده لخوض حروب واسعة لأتفه الأسباب. فهو لم يعمل قط على تحاشي الحرب، أي على إنتاج السلام. ليس لدي ترسانة إيديولوجية، لدي خارطة واضحة للقيم الحضارية والإنسانية والأخلاقية. ليس لأنه هاشمي، فهذا أمر شديد التفاهة في تقديري، وبلا معنى. الهاشمي الذي سيسافر إلى اليابان ثم يعجز عن العثور على عمل جيّد لأن مهاراته غير مطلوبة في اليابان هو هاشمي بلا قيمة حضارية، أي عالة على فكرة الحياة نفسها. أما الهاشمي الذي يرحّب به مركز صناعات دوائية، على سبيل المثال، في النمسا فهو هاشمي جيّد. ليس لأنه هاشمي، بل لأنه تعلم أموراً تخدم العالم. خارج هذا التصنيف الحاد، والأبيض، لا يوجد سوى الكثير من الضوضاء والجهل المطبق. الجهل الذي دفعنا إلى تحقيق الرقم العظيم: 75 ألف قتيلاً مسلماً في عام واحد، وفقاً للمعهد العالمي للدراسات الاستراتيجية، في صراعات حول السلطة، والقبيلة، والمذهب.
انفجرت ماسورة المهرتلين، وأصبح علينا أن نتحلى بالشجاعة الكافية، وأن نكف عن الاشمئزاز. وبذوق الأمير الرفيع عليك أن تلتقط من كل أكوام الهرتلة و"الشايزَه" التقط بعض الجمل، بعض العبارات، ثم ..
اطعم الوحش!
هذا قدرك..
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها