خوف وتشاؤم وبينهما فدرلة !!
الافراط في الخوف والشك دلالة على نفسية مضطربة منتهاها الجنون المهلك ، كذلك هو الافراط في التشاؤم القانط المستريب حين يستبد بذهن الانسان ، في كلا الحالتين التوحد والتجزئة مآلهما الفشل والموت ما بقي كل طرف أسير هواجسه وشكوكه ويأسه .
فمثلما قلنا في تناولات سابقة بان الفدرلة والصدق صنوان متلازمين وبلا انفصام لاحدهما عن الاخر ،فما من دولة اتحادية مستقبلية عمادها الكذب والغدر والشك والحيلة وفقدان الثقة ، فمثل هذه الافعال لا تبني وطنا موحدا ومستقرا بقدر ما تكون وسيلة مضللة هادمة ممزقة لكل فكرة وفرصة من شأنها حفظ نسيج المجتمع الواحد .
المملكة المتحدة دولة بسيطة وكانت الى منتصف القرن الفائت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس ،هذه الدولة التي هي عبارة عن ارخبيل من الجزر بلا دستور مكتوب ، ونظامها ليس فيدراليا ؛ إلا أنها وبطريقة ما منحت اسكتلندا وايرلندا الشمالية استقلالية وسيادة لم تحصل عليها جمهوريات واقاليم حكم ذاتي في روسيا الاتحادية .
والحال ينطبق على فيدراليات ناشئة مثل الارجنتين المانحة اقاليمها الغنية بمواردها الطبيعية كامل السلطات والصلاحيات ودونما مشاركتها مع الحكومة المركزية ، وهذه مزية تفردت بها الارجنتين عن سواها من الدول الفيدرالية بما فيها الولايات المتحدة صاحبة اول تجربة فيدرالية
المهم في المسألة برمتها ليس في تقسيم اليمن الى اقليمين او اربعة أو ستة وإنما المهم يكمن بمدى توافر النية والمصداقية وكذا برغبتنا الاكيدة المخلصة بكون الفدرلة حلا عادلا وناجعا وضامنا لدولة موحدة وقوية ومستقرة في المستقبل ، فالواقع المشاهد لا يدعو للاطمئنان .
فكل هذه الخلافات المحتدمة لا تؤسس للبناء عليها دولة موحدة مغايرة تماما لصورة الدولة الواحدة القائمة التي وصلت فيها الوضعية لحد استحالة صيرورتها ،والامر ذاته حين يتعلق باستعادة الدولة الشطرية التي ربما اعتبرها البعض حلا منطقيا وواقعيا افضل بكثير من البقاء في كنف توحد يستلزمه عقود من الوقت كيما تقام فيه الدولة والنظام ، وكيما تذهن فيه القبيلة وتذوب في كيان الوطنية والمواطنة .
فهذه الدولة وعلى فرضية استعادتها فإنها لن تكون إلا فاتحة لمشكلات وازمات مستقبلية ممزقه لنسيجها ومعيقة لتطورها واستقرارها .
نعم الجنوب لا يتساوق وضعه السياسي مع وضع صعده أو تهامة أو اليمن الاسفل – وفق تعبير ساخر تسمعه في تعز وإب – لكنه ومع تمايزه بدولته وثورته واستقلاله ونضاله ، وحتى توحده لا يبدو ان هذا الجنوب الثائر الهادر أهله قد استفاد أو تعلم من اخطاء ساسته الذين ساقوه الى توحد غلبه الارتجال ، وطغت فيه العاطفة الجياشة ، وتصدرته الانانية والذاتية .
فما هو مشاهد ودال لا يشي بغلبة منطق العقل والحكمة والمصلحة الجمعية ، فجميع هذه الاشياء تم اغفالها في الزمن الماضوي والآن يتكرر اهمالها ومن ذات الصفوة الجنوبية التي نعتب عليها ونحملها اوزار ما حدث للجنوب واهله من تمزق وانهاك ووهن قبل ان تستفحل المسألة وتصير ضياعا وفقدانا وخسارة للدولة ولكل منجز ومكتسب تحقق لمواطن هذه الدولة .
فدرلة اليمن ليست وليدة اللحظة الراهنة ، بل هذه الفدرلة طرحت لأول مرة كخيار لوحدة سياسية بين الدولتين ، وقتها مثلت الفيدرالية الثنائية مطلبا حمله الرئيس الاسبق الى عدن سنة 89م .
المرة التالية كانت في ظل التوحد واثناء الازمة السياسية التي اعقبت انتخابات 27ابريل 93م فبعد حوار شاق ومنهك شاركت فيه كافة القوى السياسية في الساحة خلص هذا الحوار الى رؤية وطنية أسموها " وثيقة العهد والاتفاق " وتم التوقيع عليها في المملكة الاردنية يوم 20فبراير 94م وبإشراف ورعاية من العاهل الاردني الملك حسين رحمه الله الى جانب الملحقين العماني والفرنسي ، وقتئذ كان الكلام محوره الدولة الاتحادية ذات الخمسة والسبعة المخاليف ،لم يتحدث أحدا او يختلف حول ماهية هذه الاقاليم او حدودها ومساحتها !
اليوم تطرح الفدرلة ولكن ليس كخيار وانما كضرورة وحتمية لا مفر من التنصل او النكث بها مثلما كان عليه الحال مع وثيقة الحوار الوطني وفيدراليتها التي تم دفنها بتراب مجنزرات الحرب مايو – يوليو 94م ، فلم يخف الرئيس الاسبق مشاعره المكبوتة حيال وثيقة اجماع وطني ، فبمجرد انتصاره العسكري المزعوم ، وفي خطبة متلفزة وصف وثيقة الحوار برمتها ب " وثيقة الخيانة والعار" ودونما حتى اكتراث بكونه اول الموقعين .
الآن وبعد كل ما وقع في هذه البلاد لم تعد الفدرلة المغدور بها من رأس النظام السابق والقوى المتحالفة معه قبل عقد ونصف هي ذاتها الفيدرالية التي ينبغي التوافق عليها الآن ، فما من شيء يبقي حاله إلا والزمن كفيل بتغييره واستبداله ! فما اخشاه هو ان يتم اهدار أخر فرصة بدعوى الجزع والريب من فدرلة منتهاها انسلاخ الجنوب عاجلا أو آجلا أو بذريعة اليأس والقنوط من استحالة فدرلة في كنف توحد يسوده منطق القوة والهيمنة والاستئثار الجهوي الكثيف .
وإذا كان تمثيل الجنوب في الحوار الوطني يقوم على اساس مرجح لكفة شراكته الغائبة والمنكوص بها مذ الوهلة الاولى التي تم الاتفاق فيها على توحد لم يؤخذ بالاعتبار طبيعة الفروقات الاقتصادية والايديولوجية والفكرية والثقافية والسلوكية المتكونة بداخل كل شطر وعلى مدى قرن ونصف على أقل تقدير .
فإنه وبالمقابل تمثيل الشمال يقوم على اساس ما حققته حرب 94م من مكاسب ونتائج – وايضا – من مغانم وواقع يستوجب الإستماته لأجله ولو اقتضى من هذه القوى القديمة الجديدة افشال الحوار وتبديد أخر فرصه الململة لشتات كيان بات اقرب للتجزئة منه للتوحد .
في الحالتين لا الخوف والشك جدير بخلق كيان واحد ومعافى من امراض زخرت بتجربة مريرة ومحبطة وقاسية ، أو ان التشاؤم والاحباط يمكن الاعتداد به كمحفز ودافع للهرولة صوب التجزئة ثانية .
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها