الصدق اولا والفدرلة تاليا !!
قبل الفيدرالية يتوجب على الفيدراليين إعمال الصدق باعتباره أهم وابلغ ضمانة من الاتفاقات والعهود ،فوفق فهمي المتواضع للنظام الفيدرالي هو أنه لا يعني فقط توزيع السلطة وإعادة رسم الجغرافيا بناء ومقتضيات اجتماعية وتاريخية واقتصادية وثقافية ؛ لكنه ايضا يعني قيمة نفعية ونوايا صادقة تصاحبها ارادة سياسية ورغبة مخلصة في مشاركة الاخرين في السلطة والثروة والقوة .
وفي الاعتراف الصريح بهوية وولاء الاخر ، وباحترام خصوصيته ، ومعتقده ، وكرامته ، فالمهم والاساس من انتهاج الفيدرالية هو صدق الشعور وقوة الاحساس بالشراكة الجمعية في بناء الدولة القوية العادلة الديمقراطية باعتبارها غاية وهدف تسعى لتحقيقه كل مجتمعات الانظمة الفيدرالية .
فجوهر الفدرالية وفق تعريف رونالد واتس مؤلف كتاب " الانظمة الفيدرالية " هو ترسيخ الوحدة واللامركزية والمحافظة عليهما في آن واحد ، فالاتحادات الفدرالية محورها الاساس القيمة والمصداقية المفترضة في الجمع ما بين الوحدة والتعددية ،وعلى استيعاب الهويات المميزة والحفاظ عليها وتعزيزها ضمن اتحاد سياسي اكبر حجما " .
ما أسمعه واراه هذه الايام لا صلة له البتة بفدرلة الدولة اليمنية المنشودة لغالبية اليمنيين الذين انهكتهم صراعات القبائل المتناحرة على السلطة ، وإنما يمكن وصفه بصراع ماضوي اناني شخصي مزاجي عاطفي مكرس للهيمنة والغلبة الفئوية والقبلية والمناطقية والطائفية .
فكل هذا الجدل والوجل والشك لا علاقة له بالفدرلة ومفاهيمها ومساراتها وشروطها المؤسسة لدولة موحدة ومستقرة مجتمعيا ؛ بل هذه المفردات لها علاقة وثيقة بماض موغل في الاستئثار والعنف والاقصاء والخوف والانقسام والمقاومة السلبية لكل اشكال التمدن والتحضر والاندماج والتعايش والاستقرار والشراكة الحقيقية والمواطنة المتساوية .
وإذا كانت الفدرلة في المقام الاول صدقا وغرضا نبيلا مبتغاه دولة يمنية قوية ومستقرة ؛فإن الواقع المشاهد يشيء بالكذب والتضليل والحيلة والتوجس والرفض والعنت وسواها من الممارسات التي نراها الآن ماثلة شاخصة ، كأنما الفدرلة ليست سوى محاولة للإفلات من المشكلات العميقة القاتلة للوحدة الاندماجية .
إنه ذات الخطأ أو قولوا الغدر المميت الذي كان مستهله اتفاقا خادعا ومستريبا بدولة واحدة أُعلنت سنة 90م ولم يدم عهدها أشهرا حتى تكشفت وبرزت عرى خطأها القاتل ، الواقع إننا إزاء دولة اتحادية ولكن بمنطق جزع مخاتل سقيم لا يتورع عن تلغيم المستقبل بإمراضه وحيله واساليبه القديمة التي اودت بدولة الوحدة وبمجتمعها الى هذه الحالة غير قابلة بالبقاء او الاستمرار .
شخصيا لا أجد في فدرلة الدولة اليمنية خطرا مستطيرا على التوحد السياسي ،فعلى العكس ربما افلحت الفدرلة بحفظ اليمن موحدا . ما أخشاه ليس من فدرلة ثنائية او خماسية وإنما من ناحية الدولة الضعيفة الهشة الفاقدة السيطرة والسيادة على عاصمتها قبل اقاليمها المفترضة ، ليكن الجنوب اقليما وحيدا والشمال بعشرة اقاليم .
فهل المشكلة هنا بقلة وكثافة الاقاليم وحدودها وثروتها أم ان المشكلة بالدولة المركزية الفاقدة القدرة والاهلية على فرض نفوذها وسلطتها على اقاليمها وحدودها السيادية ؟ أعتقد ان الخطر الحقيقي يأتي من جهة الدولة المركزية المناط بها مهمة التجسيد للفدرلة الادارية ورعايتها وتطويرها وبما يجعلها في نهاية المطاف في خدمة رفاهية وتنمية المجتمع المتحد اولا وتاليا في خدمة قوة واستقرار دولته المتحدة .
في سويسرا 26كانتونا لقرابة عشرة ملايين انسان يتحدثون ثلاث لغات مختلفة - المانية وفرنسية وايطالية - ويعتنقون المسيحية بمذاهبها البروتستانتية والأرثوذكسية والكاثوليكية ناهيك عن الاديان الوافدة مع المسلمين واليهود والهندوس والبوذية وسواهم ممن لا دين لهم ويعيشون معا على جغرافية لا تزيد عن مساحة محافظة (40ألف كم2 ) .
هذه الدولة بلا جيش أو ثروة نفط أو غاز ، ومع كل ذلك قدر لهذه الدولة اقامة نظام فيدرالي متناغم ومستقر رغم تلكم الفروقات الاثنية والطائفية واللغوية ، فمن خلال الاهتمام بالإنسان واحترام حرياته وتعدديته نهضت سويسرا وتصدرت قائمة الدول وبثروة بقرها ال600ألف رأس حققت ما لم تستطع تحقيقه دولة منتجة ل10مليون برميل نفط في اليوم .
ولاية الباما الامريكية كانت قد ضمنت دستورها بشرط حق الاستقلال عن امريكا متى رأت ان مصلحتها تقتضي الانفصال عن الكيان الامريكي فكل ما يستلزمها في هذه الحالة هو تصويت برلمانها وبواقع النصف زايد واحد ، لكنها ومنذ انضمامها لم تعد تكترث لحق الانفصال فلقد كانت المنافع المشتركة مع الولايات الاخرى أكبر من يجعلها اسيرة نص دستوري يمنحها الاستقلال .
فالمهم في النظام الفدرالي هو الصدق مع الذات ومع المجتمع ، فدون الاعتماد على الصدق كوسيلة وغاية للعبور باليمن واليمنيين الى الدولة القوية المستقرة العادلة الناهضة ؛ سيكون الحديث عن أي شكل للدولة مجرد سفسطة عبثية مبددة للوقت ومهدرة للطاقة والفرصة ، هذا إذا لم نقل بانه لن يفضي لسوى المزيد من التفكك لكيان دولة عمادها الحيلة والوهم والشك والخوف والحسابات الشخصية .
أيا يكن الامر فهناك ثمانية وعشرين كيانا فيدراليا يقطنها اربعون بالمئة من سكان المعمورة ، فمن عشر دول كثافة سكانية توجد ست دول فيدرالية كما ومن بين اكبر عشر دول مساحة في العالم توجد ثمان دول انظمتها فيدرالية ومن بين أصغر الدول كثافة ومساحة ايضا توجد دولا لا تتعدى مساحتها وسكانها جزر سقطرة وكمران إن لم أقل مديريات ومحافظات في اليمن .
البعض لديه مخاوفه من تكرار تجربة التشيك والسلوفاك وجنوب السودان وشماله أو باكستان وبنجلادش ، ثلاثة نماذج ربما عدها هؤلاء دليلا وبرهانا يستوجب الحذر ، لكن هذه النماذج الثلاثة لم تفشل نتيجة ثنائية اثنية وطائفية مكونة للدولة وإنما سبب فشلها مرده غياب الشراكة المتكافئة في الدولة وحضور الاقصاء والتسلط وغلبة العرق والطائفة .
بالطبع اليمن ليست فيها مشكلة عرقية او طائفية كتلك المقوضة لثلاثة كيانات فيدرالية اقامت وحدتها على ثنائية العرق والمذهب الديني ، لكن ذلك لا ينفي حقيقة الفشل الناتج في الاصل عن سطوة وتمايز واضطهاد واحتكار مجموعة اثنية ودينية لا نتاج ثروة ومساحة شاسعة أو للفدرلة الثنائية الكائنة على اساس أكثرية واقلية .
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها